في جيب درعها ، فحملت به فأضيف إلى الله تعالى تشريفا له ، وليس كما زعمتم أنه ابن الله ، أو إله معه ، أو ثالث ثلاثة ؛ لأنّ الروح مركب ، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» (١)(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي : عيسى وغيره ولا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض (وَلا تَقُولُوا) كما قالت النصارى : الآلهة (ثَلاثَةٌ) الله وعيسى وأمه ، قال تعالى : (انْتَهُوا) عن ذلك وائتوا (خَيْراً لَكُمْ) من ذلك وهو التوحيد (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أي : لا تعدّد فيه بوجه مّا (سُبْحانَهُ) تنزيها له (أَنْ) أي : عن أن (يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي : كما قلتم أيها النصارى ، فإنّ ذلك يقتضي الحاجة ويقتضي التركيب والمجانسة ، ثم علل ذلك بقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا ، فلا يتصوّر أن يحتاج إلى شيء منهما ، ولا إلى شيء متحيّز فيهما ، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزءا منه وولدا له ؛ لأنّ الملكية تنافي البنوة ، وعيسى وأمه كل منهما محتاج إلى ما في الوجود (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي : يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج هو إلى شيء ، فهو غني عن الولد ، فإنّ الحاجة إليه ليكون وكيلا لأبيه ، والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كاف في ذلك مستغن عمن يخلفه أو يعينه.
روي أنّ وفد نجران قالوا : يا رسول الله لم تعيب صاحبنا؟ قال : «ومن صاحبكم؟» قالوا : عيسى قال : «وأيّ شيء أقول؟» قالوا : تقول إنه عبد الله قال : «إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله» قالوا : بلى ، فنزل قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ») أي : يتكبر ويأنف (الْمَسِيحُ) أي : الذي زعمتم إنه إله (أَنْ) أي : عن أن (يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) فإنّ عبوديته له شرف يتباهى به وإنما المذلة والاستنكاف في عبودية غيره وقوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي : عند الله عطف على المسيح أي : ولا تستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله ، وهذا من أحسن الاستطراد ذكر للرد على من زعم إنها آلهة أو بنات الله كما ردّ بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك المقصود خطابهم ، فلا حجة فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء كما زعمه بعض المعتزلة قائلا بأنّ المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه.
قال الطيبي : وإنما تنهض الحجة على النصارى إذا سلموا أن الملائكة أفضل من عيسى ودونه خرط القتاد ، فكيف والنصارى رفعوا درجة عيسى إلى الإلهية ، فظهر أن ذكر الملائكة للاستطراد كما ردّ على النصارى وأنه من باب التتميم لا من باب الترقي اه. أو من باب الترقي في الخلق لا في المخلوق كما قاله البقاعي ، قال : لأن الملائكة أعجب خلقا من عيسى في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى ، ولا ما يجانس عضو البشر فكانوا لذلك أعجب خلقا من آدم عليه الصلاة والسّلام أيضا أو في القوّة ؛ لأنهم أقوى من عيسى ؛ لأنهم يقتلعون الجبال ويأتون بالمياه العظيمة والعبادات الدائمة المستمرّة (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) أي : يطلب الكبر عن ذلك قال الراغب : الاستنكاف تكبر في أنفة والاستكبار بخلافه (فَسَيَحْشُرُهُمْ) أي : المستكبرين وغيرهم (إِلَيْهِ جَمِيعاً) في الآخرة بوعد لا يخلف فيجازيهم.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تصديقا لإقرارهم بالإيمان (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي :
__________________
(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٣٥ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٨.