والمساكين من الزكاة والكفارات جاز له أن يكفر بالصوم لأنه فقير في الأخذ فكذا في الإعطاء (ذلِكَ) أي : المذكور (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) أي : وحنثتم (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أي : من أن تنكثوها ما لم تكن من فعل برّ أو إصلاح بين الناس كما مرّ في سورة البقرة (كَذلِكَ) أي : مثل ما بين لكم ما ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي : أعلام شريعته (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : يحصل منكم شكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ) أي : المسكر الذي خامر العقل سواء فيه كثيره وقليله (وَالْمَيْسِرُ) أي : القمار (وَالْأَنْصابُ) أي : الأصنام (وَالْأَزْلامُ) أي : قداح الاستقسام (رِجْسٌ) أي : خبيث مستقذر وإنما وحد الخبر للنص على الخمر والإعلام بأنّ أخبار الثلاثة حذفت وقدرت لأنها أهل لأن يقال في كل واحدة منها على حدتها كذلك ولا يكفي عنها خبر واحد على سبيل الجمع ثم زاد في التنفير عنها تأكيدا لرجسيتها بقوله تعالى : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) الذي يزينه (فَاجْتَنِبُوهُ) أي : الرجس المعبر به عن هذه الأشياء أن تفعلوه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : تظفرون بجميع مطالبكم.
واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بأن صدّر الجملة بإنما وقرنهما بالأصنام والأزلام وسماهما رجسا وجعلهما من عمل الشيطان تنبيها على أن الاشتغال بهما شر خالص أو غالب وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعل الاجتناب سببا يرجى منه الفلاح.
ثم قرّر ذلك بأن بين ما فيهما من المفاسد الدينية والدنيوية المقتضية للتحريم بقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) أي : بتزيين الشرب والقمار لكم (أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي : إذا أتيتموهما لما يحصل فيهما من الشرّ والفتن ، أمّا العداوة في الخمر فإنّ الشارب إذا سكر عربد كما فعل الأنصاري الذي شج رأس سعد بن أبي وقاص بلحى الجمل ، وأمّا العداوة في الميسر فقال قتادة : كان الرجل يقامر على الأهل والمال ثم يبقى حزينا مسلوب الأهل والمال مغتاظا على حرفائه (وَيَصُدَّكُمْ) بالاشتغال بهما (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) وذلك لأنّ من اشتغل بشرب الخمر والقمار ألهاه ذلك عن ذكر الله وشوش عليه صلاته كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف ، تقدّم رجل منهم يصلي بهم صلاة المغرب بعدما شربوا فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد بحذف لا ، وإنما خصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيها على أنهما المقصودان بالبيان وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة لقوله صلىاللهعليهوسلم : «شارب الخمر كعابد الوثن» (١) رواه البزار ورواه ابن حبان بلفظ «مدمن الخمر كعابد الوثن» (٢) قال : ويشبه أن يكون فيمن يستحلها وهو كذلك وخص الصلاة بالذكر للإفراد بالتعظيم والإشعار بأنّ الصادّ عنها كالصادّ عن الإيمان من حيث إنها عماده ، والفارق بينه وبين الكفر ثم أعاد الحثّ على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدّم من أنواع الصوارف بقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) إيذانا بأنّ الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وأنّ الأعذار قد انقطعت فلفظه الاستفهام ومعناه أمر كقوله تعالى :
__________________
(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ٧٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٣١٧٦ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ١٥٢.
(٢) أخرجه ابن ماجه في الأشربة حديث ٣٣٧٥ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٨ / ٦ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ١٥٢.