أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتيح الذي هو جمع مفتح بالكسر وهو المفتاح (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) وهي الخمسة التي في قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان ، ٣٤] الآية كما رواه البخاري فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها (وَيَعْلَمُ ما) يحدث (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قدّم البر لأنّ الإنسان أكثر ملابسة له بما فيه من القرى والمدن والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك ، وأخر البحر لأنّ إحاطة العقل بأحواله أقل ، وقال مجاهد : البر : المفاوز والقفار ، والبحر : القرى والأمصار التي على الأنهار وقوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) أي : ورقة من يد (إِلَّا يَعْلَمُها) مبالغة في إحاطة علمه تعالى بالجزئيات ، وقوله تعالى : (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) عطف على ورقة واختلف في الحبة فقيل : هي من هذا الحب المعروف تكون في بطن الأرض قبل أن تنبت ، وقيل : هي الحبة التي تنبت في الصخرة التي في أسفل الأرض ، واختلف في معنى الرطب واليابس فقال ابن عباس : الرطب : الماء ، واليابس : البادية ، وقال عطاء : يريد ما ينبت وما لا ينبت وقيل : المراد بالرطب : الحيّ ، وباليابس : الميت ، وقيل : هو عبارة عن كل شيء لأنّ جميع الأشياء إمّا رطبة وإمّا يابسة.
فإن قيل : جميع هذه الأشياء داخلة تحت قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) فلم أفرد هذه الأشياء بالذكر؟ أجيب : بأنه تعالى ذكرها أوّلا مجملة ثم فصل بعضا من ذلك الإجمال ليدل بها على غيرها وقوله تعالى : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) فيه قولان : أحدهما : إنه علم الله الذي لا يغير ولا يبدل ، والثاني : إنه اللوح المحفوظ لأنّ الله تعالى كتب فيه علم ما يكون وما قد كان قبل أن يخلق السموات والأرض فهو على الأوّل بدل من الاستثناء الأوّل بدل الكل وعلى الثاني بدل الاشتمال.
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي : يقبض أرواحكم عند النوم (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) أي : كسبتم (بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) أي : يوقظكم بردّ أرواحكم (فِيهِ) أي : النهار.
فإن قيل : لم خص الليل بالنوم والنهار بالكسب مع أنّ ذلك يقع في غير هذا؟ أجيب : بأنّ ذلك جرى على الغالب (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي : ليبلغ المستيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بالموت والبعث (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به.
(وَهُوَ الْقاهِرُ) مستعليا (فَوْقَ عِبادِهِ) لأنّ من قهر شيئا وغلبه فهو مستعل عليه أمّا قهره للمعدوم فبالتكوين والإيجاد وأمّا قهره للموجود فبالإفناء والإفساد بنقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى ويقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور والنهار بالليل والليل بالنهار إلى غير ذلك من ضروب الكائنات وصنوف الممكنات (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ) من ملائكته (حَفَظَةً) أي : تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون ، وعن أبي حاتم السجستاني أنه كان يكتب عن الأصمعي كل شيء تلفظ به من فوائد العلم حتى قال فيه : أنت شبيه الحفظة تكتب لفظ اللفظة فقال أبو حاتم : وهذا أيضا مما يكتب.
فإن قيل : الله تعالى غني عن كتابة الملائكة فما فائدتها؟ أجيب : بأنّ فيها لطفا للعباد لأنهم إذا علموا أنّ الله رقيب عليهم والملائكة موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في