(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي : من مجموعكم وهم الإنس إذ الرسل منهم خاصة ولكن لما جمع الجنّ مع الإنس في الخطاب صح ذلك ونظيره قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن ، ٢٢] فإنّ ذلك يخرج من الملح دون العذب أو إن رسل الجنّ نذرهم الذين يسمعون كلام الرسول فيبلغون قومهم كما قال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) [الأحقاف ، ٢٩] الآية وتعلق بظاهر الآية قوم فقالوا : بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي : يخبرون بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : ويحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم القيامة (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي : اعترفوا بأنّ الرسل قد أتتهم وبلغتهم رسالات ربهم وأنذرتهم لقاء يومهم هذا وأنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : إنما كان ذلك بسبب أنهم غرّتهم الحياة الدنيا ومالوا إليها (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي : في الدنيا.
فإن قيل : كيف أقروا على أنفسهم بالكفر في هذه الآية وجحدوا في آية أخرى وهي قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ، ٢٣]؟ أجيب : بتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول فيقرون في بعضها ويجحدون في بعض آخر.
فإن قيل : لم كرّر شهادتهم على أنفسهم؟ أجيب : بأن الأولى حكاية لقولهم : كيف يقولون وكيف يعترفون؟ والثانية ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة ، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذيرا للسامعين عن مثل حالهم.
(ذلِكَ) أي : إرسال الرسل (أَنْ) أي : لأجل أن (لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) أي : بسبب ظلم ارتكبوه (وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي : لم يتنبهوا برسول يبين لهم.
(وَلِكُلٍ) أي : من العاملين بطاعة أو معصية (دَرَجاتٌ) أي : جزاء (مِمَّا عَمِلُوا) أي : من خير وشر إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانخفاض كتفاضل الدرج (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي : عن شيء يعمله أحد من الفريقين بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل من ثواب أو عقاب ، وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ، والباقون بالياء على الغيبة.
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) أي : الغنى المطلق عن كل عابد وعبادته فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها (ذُو الرَّحْمَةِ) أي : التجاوز عن خلقه فمن رحمته إرسال الرسل وتأخير العذاب عن المذنبين لعلهم يتوبون ويرجعون (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يا أهل مكة بالإهلاك ففيه وعيد وتهديد لهم (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ) أي : بعد إهلاككم (ما يَشاءُ) أي : خلقا غيركم أمثل وأطوع منكم (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ) أي : نسل (قَوْمٍ آخَرِينَ) أذهبهم لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليهالسلام ولكنه أبقاكم رحمة بكم.
(إِنَّ ما تُوعَدُونَ) من مجيء الساعة والبعث بعد الموت والحشر للحساب يوم القيامة (لَآتٍ) لا محالة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : فائتين عذابنا.
(قُلْ) يا محمد لقومك من كفار قريش (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي : حالتكم التي