الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أنه قاله فإنكم لم تسمعوا كلام الله من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله وبين عباده وهو استفهام إنكاري يتضمن النهي عن الافتراء على الله ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياء في الوصل والباقون بالتحقيق.
(قُلْ) يا محمد لهؤلاء الذين يقولون ذلك (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل وهو الوسط من كلام المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط وقال ابن عباس : بلا إله إلا الله (وَأَقِيمُوا) أي : وقل لهم أقيموا (وُجُوهَكُمْ) لله (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي : أخلصوا له سجودكم.
فإن قيل : (أَمَرَ رَبِّي) خبر (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز. أجيب : بأنّ فيه إضمارا وحذفا تقديره : قل أمر ربي بالقسط ، وقل : أقيموا كما تقدّم تقديره فحذف قل لدلالة الكلام عليه ، وقيل : معنى الآية وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقيل : معناه صلوا في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم (وَادْعُوهُ) أي : اعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : الطاعة ولا تشركوا به شيئا فإنّ إليه مصيركم و (كَما بَدَأَكُمْ) أي : كما أنشأكم ابتداء (تَعُودُونَ) أي : يعيدكم أحياء يوم القيامة حالة كونكم فريقين.
(فَرِيقاً هَدى) أي : خلق الهداية في قلوبهم فحق لهم ثواب الهداية (وَفَرِيقاً حَقَ) أي : ثبت ووجب (عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي : بمقتضى القضاء السابق ، وقيل : إنّ الله تعالى بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن ، ٢] ثم يعيدكم يوم القيامة ، كما خلقكم كافرا ومؤمنا وقيل : يبعثون على ما كانوا عليه.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «يبعث كل عبد على ما مات عليه» (١) المؤمن على إيمانه والكافر على كفره. وقيل : من ابتدأ الله خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل عمل أهل السعادة كما أنّ إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة ، ومن ابتدأ الله خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل عمل أهل الشقاوة كما أنّ السحرة كانوا يعملون عمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم» (٢) وانتصاب فريقا بفعل يفسره ما بعده أي : وخذل فريقا وقوله تعالى : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : دونه تعليل لخذلانهم وتحقيق لضلالهم (وَيَحْسَبُونَ) أي : يظنون (إِنَّهُمُ) مع ضلالهم (مُهْتَدُونَ) أي : على هداية وحق وفيه دليل على أنّ الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند في الكفر سواء.
(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) أي : ما يستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي : كلما صليتم أو طفتم وكانوا يطوفون عراة ، وعن طاووس رحمهالله : لم يأمرهم بالحرير والديباج وإنما أحدهم كان يطوف عريانا ويضع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا : لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها ، وقيل : تفاؤلا ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب ، وقيل : الزينة المشط ، وقيل : الطيب. والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة
__________________
(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٧٨.
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٤٩٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ١١٢.