يُلْحِدُونَ) أي : يميلون عن الحق (فِي أَسْمائِهِ) أي : حيث اشتقوا منها أسماء لآلهتهم كاللات من الله والعزى من العزيز ، ومنات من المنان ، وقال أهل المعاني : الإلحاد في أسمائه تعالى هو أن تسميه بما لم يسم الله به نفسه ، ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة ؛ لأن أسماءه تعالى كلها توقيفية فيجوز أن يقال : يا جواد ، ولا يجوز أن يقال : يا سخي ، ويجوز أن يقال : يا عالم ، ولا يجوز أن يقال : يا عاقل ، ويجوز أن يقال : يا حكيم ، ولا يجوز أن يقال : يا طبيب (سَيُجْزَوْنَ) أي : في الدنيا والآخرة (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في هذا وعيد شديد لمن ألحد في أسمائه تعالى وهذا قبل الأمر بالقتال ، وقرأ حمزة : «يلحدون» بفتح الياء والحاء من لحد ، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أنه خلق للنار طائفة ضالين مضلين ملحدين عن الحق ذكر أنه خلق للجنة أمة هادين في الحق عادلين في الأمر بقوله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ) أي : جماعة (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ) أي : بالحق خاصة (يَعْدِلُونَ) أي : يجعلون الأمور متعادلة لا زيادة في شيء منها على ما ينبغي ولا نقص ؛ لأنا وفقناهم فكشفنا عن أبصارهم حجاب الغفلة التي ألزمناها أولئك ، واستدل بذلك على صحة الإجماع ؛ لأنّ المراد منه أنّ في كلّ قرن طائفة بهذه الصفة ، وأكثر المفسرين أنهم أمّة محمد صلىاللهعليهوسلم لقوله صلىاللهعليهوسلم : «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله» (١) رواه الشيخان ، وعن معاوية رضي الله تعالى عنه قال وهو يخطب : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا تزال من أمّتي أمّة قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» (٢) إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة فإنه معلوم ، وعن الكلبيّ هم الذين آمنوا من أهل الكتاب ، وقيل : هم العلماء والدعاة إلى الدين.
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : القرآن أو غيره من أهل مكة أو غيرهم (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي : سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا ، وأصل الاستدراج الاستبعاد والاستنزال درجة بعد درجة (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي : سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون ، وذلك أنّ الله تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغبطون به ويركنون إليه ، ثم يأخذهم على غرّة أغفل ما يكونون.
وقيل : سنقرّبهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم ؛ لأنهم كانوا إذا أتوا بذنب فتح الله تعالى عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا ، فيزدادوا بذلك تماديا في الغيّ والضلالة ويتدرجوا في الذنوب والمعاصي بسبب ترادف النعم يظنون أن تواتر النعم يقرب من الله تعالى ، وإنما هي خذلان منه وتبعيد ، فهو استدراج الله تعالى فيأخذهم الله تعالى أخذة واحدة أغفل ما يكونون عليه ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى قال : اللهمّ إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا فإني سمعتك تقول : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ.)
(وَأُمْلِي لَهُمْ) أي : أمهلهم وأطيل مدّة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة (إِنَّ كَيْدِي) أي : أخذي (مَتِينٌ) أي : شديد وإنما سماه كيدا ؛ لأنّ ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
__________________
(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٦٠ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٩٢٠ ، والترمذي في الفتن حديث ٢٢٢٩ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٠.
(٢) انظر الحاشية السابقة.