ذلك من النعم التي لا تحصى قال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم ، ٣٤] [النحل ، ١٨] (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أي : بامتثال أمري ومنه ما عهدت إليكم من الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي : الذي عهدته إليكم من الثواب عليه بدخول الجنة.
تنبيه : للوفاء بالعهد درجات كثيرة : فأوّل مراتبه منا هو الإتيان بكلمتي الشهادتين ، ومن الله تعالى حقن الدماء والمال ، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلا عن غيره ، ومن الله تعالى الفوز بالغنى الدائم ، وأمّا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن (أَوْفُوا بِعَهْدِي) في اتباع محمد (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) في رفع الآصار أي : الأثقال والأغلال ، وعن غير ابن عباس : أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب ، أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوف بالكرامة والنعيمم المقيم فبالنظر إلى الوسايط (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فيما تأتون وتذرون وخصوصا في نقض العهد ، والرهبة خوف مع تحرز.
تنبيه : الآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وأنّ المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحدا إلا الله.
(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) من القرآن ، وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة مما أنزلت أو من ضميره المحذوف (لِما مَعَكُمْ) من التوراة بموافقته له ولغيره من الكتب الإلهية في القصص ونعت النبيّ صلىاللهعليهوسلم والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث إن كل واحد منها حق بالإضافة إلى زمانها مراعي فيها صلاح من خوطب بها حتى لو نزل المتقدّم في أيام المتأخر لنزل على وفقه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسّلام كما رواه الإمام أحمد وغيره : «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» (١) وفي ذلك تنبيه على أن اتباع تلك الكتب الإلهية لا ينافي الإيمان بالقرآن بل يوجبه ولذلك عرّض بقوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي : بالقرآن بل يجب أن تكونوا أوّل مؤمن به لأنكم أهل نظر في معجزاته والعلم بشأنه.
فإن قيل : كيف نهوا عن التقدّم في الكفر وقد سبقهم مشركو العرب؟ أجيب : بأن المراد به التعريض بما يجب عليهم لمقتضى حالهم لا الدلالة على ما نطق الظاهر ، كقولك لمن أساء : أمّا أنا فلست بجاهل ، أو ولا تكونوا أوّل كافر من أهل الكتاب لأن خلفكم تبع لكم فإثمهم عليكم أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه أو مثل من كفر من مشركي مكة.
تنبيه : أوّل كافر به وقع خبرا عن ضمير الجمع بتقدير أوّل فريق أو فوج أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقولك : كسانا حلة أي : كل واحد منا (وَلا تَشْتَرُوا) تستبدلوا (بِآياتِي) التي في كتابكم من نعت محمد صلىاللهعليهوسلم (ثَمَناً قَلِيلاً) أي : عوضا يسيرا من الدنيا أي : لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم وذلك أنّ رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وجهالهم يأخذون منهم كل سنة شيئا معلوما من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا أنهم إن بينوا صفة النبيّ صلىاللهعليهوسلم وتابعوه أن يفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة فنهوا عن ذلك فإنّ حظوظ الدنيا وإن جلت قليلة مسترذلة بالإضافة إلى ما يفوت من
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٣٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٤٨ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٨٣ ، ٢٩٢.