جمع آكل أي : قليل يشبعهم جزور واحد ، يضرب مثلا في القلة والأمر الذي لا يعبأ به ، ثم قال : فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال ، أراد بقوله ذلك القدرة والقوّة.
فإن قيل : كيف يمكن تقليل الكثير وتكثير القليل؟ أجيب : بأنّ ذلك ممكن في قدرة الله تعالى ، وإنّ الله تعالى على ما يشاء قدير ، ويكون ذلك معجزة للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والمعجزة هي من خوارق العادات ، فلا ينكر ذلك ، أو أنّ الله تعالى يستر عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في أعينهم ما يستقلون له الكثير كما أحدث في عيون الحول ما يرون له الواحد اثنين ، قيل لبعضهم : إنّ الأحول يرى الواحد اثنين ، وكان بين يديه ديك قال : فمالي أرى هذين الديكين أربعة ، وهذا قبل التحام القتال فلما التحم أراهم إياهم مثليهم كما في آل عمران (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي : في علمه ، وهو إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله.
فإن قيل : قد تقدّم ذلك في الآية المتقدّمة ، فكان ذكره هنا محض تكرار أجيب : بأنّ المقصود من ذكره في الآية المتقدّمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على الكافرين على وجه يكون معجزة دالة على صدق النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والمقصود من ذكره هنا ليس هو ذلك المعنى بل المقصود أنه تعالى ذكر هنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين الكفار ، فبين تعالى أنه إنما فعل ذلك ليصير ذلك سببا ؛ لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سببا لانكسارهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كلها فلا ينفذ إلا ما يريد إنفاذه فلا تجري الأمور على ما يظنه العباد ، وفي هذا تنبيه على أنّ أمور الدنيا غير مقصودة وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاد اليوم المعاد.
ولما ذكر تعالى أنواع نعمه على النبيّ صلىاللهعليهوسلم وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ) أي : قاتلتم ؛ لأنّ اللقاء سبب للقتال غالبا (فِئَةً) أي : جماعة كافرة (فَاثْبُتُوا) لقتالهم كما ثبتم في بدر ولا تحدثوا أنفسكم بفرار هذا هو النوع الأوّل (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) بقلوبكم وألسنتكم قال ابن عباس : أمر الله تعالى أولياءه بذكره في أشدّ أحوالهم تنبيها على أنّ الإنسان لا يجوز له أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله ، ولو أنّ رجلا أقبل من المشرق إلى المغرب على أن ينفق الأموال سخاء والآخر من المغرب إلى المشرق يضرب بسيفه في سبيل الله لكان الذاكر لله أعظم أجرا ، وقيل : المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر ؛ لأنّ ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : تظفرون بمرادكم من النصر والثبوت.
فإن قيل : هذه الآية توجب الثبات على كل حال وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرّف والتحيز. أجيب : بأنّ المراد من الثبات الجدّ في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود لا يحصل إلا بذلك التحرّف والتحيز.
ثم قال تعالى مؤكدا لذلك :
(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)