إهانتهم له؟ فقيل : (قالَ) لهم قول الكرام اقتداء بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسّلام (لا تَثْرِيبَ ،) أي : لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك (عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) وإنما خصه بالذكر ؛ لأنه مظنة التثريب فإذا انتفى ذلك فيه فما ظنك بما بعده ، ولما أعفاهم من التثريب كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله تعالى ، فاتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله : (يَغْفِرُ اللهُ ،) أي : الذي لا إله غيره (لَكُمْ ،) أي : ما فرط منكم ، وعبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشادا لهم إلى إخلاص التوبة ، ورغبّهم في ذلك ، ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران ، فقال : (وَهُوَ) تعالى (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لجميع العباد لا سيما التائب ، فهو جدير بإدراك النعم.
روي أنهم أرسلوا إليه إنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشيا ونحن نستحي مما فرط منا ، فقال : إن أهل مصر ينظرونني وإن ملكت فيهم بعين العبودية فيقولون : سبحان من بلغ عبدا بعشرين درهما ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من ذرية إبراهيم عليهالسلام.
ولما أقرّ أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى سأل عن أبيه فقال : ما فعل أبي بعدي؟ قالوا : ابيضت عيناه من الحزن فأعطاهم قميصه وقال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) وهو قميص إبراهيم عليهالسلام الذي لبسه حين ألقي في النار عريانا فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، وكان ذلك عند إبراهيم ، فلما مات إبراهيم ورثه إسحاق ، فلما مات إسحاق ورثه يعقوب ، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك في قصبة من فضة وسدّ رأسها وعلقها في عنقه لما كان يخاف عليه من العين ، وكان لا يفارقه ، فلما ألقي في البئر عريانا جاءه جبريل وعلى يوسف ذلك التعويذ ، فأخرج القميص وألبسه إياه ، ففي الوقت جاء جبريل عليهالسلام وقال : أرسل ذلك القميص ، فإنّ فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا على سقيم إلا عوفي ، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته ، وقال : إذا وصلتم إلى أبي (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ ،) أي : يصر (بَصِيراً ،) أي : يردّ إليه بصره كما كان ، أو يأت إليّ حال كونه بصيرا (وَأْتُونِي ،) أي : أبي وأنتم (بِأَهْلِكُمْ ،) أي : مصاحبين لكم (أَجْمَعِينَ) لا يتخلف منكم أحد فرجعوا بالقميص لهذا القصد. وروي أنّ يهوذا هو الذي حمل القميص لما لطخوه بالدم فقال : لا يحمل هذا غيري لأفرحه كما أحزنته فحمله وهو حاف من مصر إلى كنعان ، وبينهما ثمانون فرسخا.
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) من عريش مصر وهو آخر بلاد مصر إلى أوّل بلاد الشأم (قالَ أَبُوهُمْ) لولد ولده ومن حوله من أهله مؤكدا لعلمه أنهم ينكرون قوله : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أوصلته إليه ريح الصبا بإذن الله تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر ، قال مجاهد : هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليهالسلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص.
قال أهل المعاني : إنّ الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليهالسلام عند انقضاء مدّة المحنة ومجيء وقت الفرج من المكان البعيد ، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدّة ثمانين سنة ، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب ، وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل ، ومعنى (لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أشم وعبر بالوجود ؛ لأنه وجدان له بحاسة الشم (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ،) أي : تنسبوني إلى الخرف.