ذهب الكل. قال البغوي : وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عزوجل ، وهو قول أهل السنة. قال عبد الله بن بريدة : إنّ الله تعالى لم يطلع على الروح ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بدليل قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أي : في جنب علم الله تعالى.
تنبيه : اختلف في المخاطب بقوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فقيل هو النبيّ صلىاللهعليهوسلم وقيل اليهود فإنهم يقولون : أوتينا التوراة وفيها العلم الكبير وقيل عام. روي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما قال لهم ذلك قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال : «نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا». فقالوا : ما أعجب شأنك ساعة تقول (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة ، ٢٦٩] وساعة تقول : هذا فنزلت. (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) [لقمان ، ٢٧] الآية قال الزمخشري : وليس ما قالوا بلازم لأنّ القلة والكثرة يدوران مع الإضافة فيوصف الشيء بالقلة مضافا إلى ما فوقه ، وبالكثرة مضافا إلى ما تحته ، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة. وقيل : كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم يعلم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك أخباره كان علما لنبوّته. قال البغوي : والأوّل أصح أنّ الله استأثره بعلمه انتهى. وعن أبي يزيد لقد مضى النبيّ صلىاللهعليهوسلم وما يعلم الروح. وقال الرازي : قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أنّ الروح قديمة أو حادثة فقال : بل هي حادثة ، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ، ثم احتج على إحداث الروح بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) بمعنى أنّ الروح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم تحصل المعارف والعلوم فهي لا تزال تكون في التغير من حال إلى حال ، وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغير والتبدّل من أمارات الحدوث. فقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) يدل على أنهم سألوه أنّ الروح هل هي حادثة أو قديمة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله تعالى وتكوينه وهو المراد من قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي.) ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال ، وهو المراد بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فهذا ما نقوله في هذا الباب انتهى. وهو نص لطيف.
ولما بيّن سبحانه وتعالى أنهم ما آتاهم من العلم إلا قليلا بيّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضا لقدر عليه بقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا) أي : ومشيئتنا لا يتعاظمها شيء واللام موطئة للقسم وأجاب عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال : (لَنَذْهَبَنَ) أي : بما لنا من العظمة ذهابا محققا (بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) بأن نمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان امرا مخالفا للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه. (ثُمَ) أي : بعد الذهاب به (لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) أي : لا تجد من تتوكل عليه في ردّ شيء منه وإعادته مسطورا محفوظا.
وقوله تعالى : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) استثناء متصل لأنه مندرج في قوله وكيلا. والمعنى إلا أن يرحمك ربك فيردّه عليك أو منقطع فتقدر لكن عند البصريين أو بل رحمة من ربك عند الكوفيين. والمعنى ولكن رحمة من ربك أو بل رحمة من ربك بتركه غير مذهوب به وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن. قال الرازي : وهذا تنبيه على أنّ لله تعالى على جميع العلماء نوعين من المنة أحدهما : تسهيل ذلك العلم عليهم. والثاني : إبقاء حفظه عليهم فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين النعمتين وعن القيام بشكرهما وهما منة من الله تعالى عليه بحفظ العلم ورسوخه في