صدره ومنته عليه في بقاء المحفوظ. فإن قيل : كيف يذهب القرآن وهو كلام الله تعالى؟ أجيب : بأنّ المراد محو ما في المصاحف وإذهاب ما في الصدور. قال عبد الله بن مسعود : اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع قيل هذه المصاحف ترفع فكيف ما في صدور الناس قال : يسري عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا ولا يجدون في المصاحف شيئا ثم يفيضون في الشعر.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل له دويّ تحت العرش كدويّ النحل فيقول الرب ما لك؟ فيقول : يا رب أتلى ولا يعمل بي. وفي رواية لابن مسعود أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولا دين لهم وأنّ هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شيء فقال رجل : كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا وتعلمه أبناؤنا ويعلمه أبناؤنا أبناؤهم؟ فقال : يسري عليه ليلا فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب وقوله تعالى : (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ) أي : ولم يزل (عَلَيْكَ كَبِيراً) فيه قولان أحدهما المراد منه أنّ فضله كان عليك كبيرا بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك.
ثانيهما أنّ المراد أنّ فضله كان عليك كبيرا بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود ، وقد أنعم عليك أيضا بإبقاء العلم والقرآن عليك. ونزل حين قال الكفار للنبيّ صلىاللهعليهوسلم لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن. (قُلْ) أي : لهؤلاء البعداء (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ) الذين تعرفونهم وتعرفون ما أوتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم (وَالْجِنُ) الذين يأتون كهانهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم وغيرهم وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من التصدي ولأنهم كانوا وسائط (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) أي : لا يقدرون على ذلك فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله.
تنبيه : في قوله تعالى : لا يأتون بمثله قولان أظهرهما أنه جواب للقسم الموطأ له باللام والثاني : أنه جواب لشرط واعتذروا عن رفعه بأنّ الشرط ماض فهو كقوله (١) :
وإن أتاه خليل ـ ، أي : فقير ـ يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأنّ الشرط وقع ماضيا وناقشه أبو حيان بأنّ هذا ليس مذهب سيبويه ولا الكوفيين والمبرد لأنّ مذهب سيبويه في مثله أنّ النية به التقديم ومذهب الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء وهذا مذهب ثالث قال به بعض الناس : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي : معينا بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه.
__________________
(١) يروى البيت بتمامه :
وإن أتاه خليل يوم مسألة |
|
يقول لا غائب مالي ولا حرم |
والبيت من البسيط ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١٥٣ ، والإنصاف ٢ / ٦٢٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٨ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٨٥ ، والكتاب ٣ / ٦٦ ، ولسان العرب (خلل) ، (حرم) ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٠٣ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٥١ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٨٦.