منقطع على الثالث والمعنى أنّ الشافعين لا يشفعون إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا كقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ، ٢٨] ويدخل في ذلك أهل الكبائر من المسلمين إذ كل من اتخذ عند الرحمن عهدا وجب دخوله فيه وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهدا وهو التوحيد فوجب دخوله تحته ويؤيده ما روي عن ابن مسعود أنه صلىاللهعليهوسلم قال لأصحابه ذات يوم : «أيعجز أحدكم أن يتخذ عند كل صباح ومساء عند الله عهدا قالوا : وكيف ذلك قال : يقول كل صباح ومساء : اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأنّ محمدا عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة» (١) فظهر أنّ المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر.
ولما ردّ سبحانه وتعالى على عبدة الأوثان عاد إلى الردّ على من أثبت له ولدا بقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) أي : قالت اليهود : عزير ابن الله وقالت النصارى : المسيح ابن الله وقالت العرب : الملائكة بنات الله.
(لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) قال ابن عباس : أي منكرا وقال قتادة : أي عظيما وقال ابن خالويه : الأدّ والإدّ العجب وقيل : العظيم المنكر والإدة الشدّة وأدّني الأمر وآدني أثقلني وعظم عليّ وقرأ : (تَكادُ السَّماواتُ) نافع والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وقرأ (يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة بعد الياء بنون ساكنة وكسر الطاء مخففا والباقون بعد الياء بتاء وفتح الطاء مشدّدة يقال : انفطر الشيء وتفطر أي : تشقق وقراءة التشديد أبلغ لأنّ التفعل مطاوع فعل والانفعال مطاوع فعل ولأنّ أصل التفعل التكلف (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) أي : تنخسف بهم (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) أي : تسقط وتنطبق عليهم.
(أَنْ) أي : من أجل أن (دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) قال ابن عباس وكعب : فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا : اتخذ الله ولدا.
فإن قيل : كيف يؤثر القول في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ أجيب بوجوه ؛ الأوّل : أنّ الله تعالى يقول كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا مني على من تفوّه بها لو لا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة ، الثاني : أن يكون استعظاما للكلمة وتهويلا وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لقواعده وأركانه الثالث : أنّ السموات والأرض والجبال تكاد أن تفعل كذلك لو كانت تعقل هذا القول.
ثم نفى الله تعالى عن نفسه الولد بقوله تعالى :
(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي : ما يليق به اتخاذ الولد ؛ لأنّ ذلك محال أما
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٣١٦ ، ٣٩٠ ، ٣ / ٤٤ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٠٨.