يترقى من نقص إلى كمال ، ففي المعاد يصل إلى كماله الذي أعدّ له من البقاء والغنى والعلم والصفاء والخلود في دار السّلام مبرأ عن عوارض هذا العالم.
ولما قرّر سبحانه هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة ، وذكر أمورا خمسة أحدها قوله تعالى : (ذلِكَ) أي : المذكور من بدء الخلق إلى آخر إحياء الأرض (بِأَنَ) أي : بسبب أن تعلموا أنّ (اللهَ) أي : الجامع لأوصاف الكمال (هُوَ) أي : وحده (الْحَقُ) أي : الثابت الدائم وما سواه فان ، ثانيها قوله تعالى : (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي : قادر على ذلك وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة ، ثالثها : قوله تعالى : (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الخلق وغيره (قَدِيرٌ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس ، ٨٢] ، رابعها : قوله تعالى : (وَأَنَّ السَّاعَةَ) التي تقدّم ذكرها وتقدّم التحذير منها وهي حشر الخلائق كلهم (آتِيَةٌ لا رَيْبَ) أي : لا شك (فِيها) أي : بوجه من الوجوه مما دلّ عليها مما لا سبيل إلى إنكاره بقول من لا مرد لقوله ، وهو حكيم لا يخلف ميعاده ، ولا يسوغ بوجه أن يترك عباده بغير حساب ، خامسها : قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ) بالإحياء (مَنْ فِي الْقُبُورِ) بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف ، وقد وعد الساعة والبعث ، فلا بدّ أن يفي بما وعد.
ونزل في أبي جهل بن هشام كما قاله ابن عباس : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) أي : بغاية جهده (فِي اللهِ) أي : في قدرته وما يجمعه هذا الاسم الشريف من صفاته بعد هذا البيان الذي لا مثل له ولا خفاء فيه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أتاه عن الله تعالى على لسان أحد من أصفيائه أعمّ من أن يكون كتابا أو غيره (وَلا هُدىً) أرشده إليه أعمّ من كونه بضرورة أو استدلال (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) له نور منه صح لديه أنه من الله تعالى ، ومن المعلوم أنه بانتفاء هذه الثلاثة لا يكون جداله إلا بالباطل ، وقيل : قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ) كرّر كما كرّرت سائر الأقاصيص ، وقيل : الأوّل في المقلدين ، وهذا في المقلدين.
وقوله تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ) حال أي : لاوي عنقه تكبرا عن الإيمان كما قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) [لقمان ، ٧] والعطف في الأصل الجانب عن يمين أو شمال ، وقوله تعالى : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) علة للجدال ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بضمها.
فإن قيل : على قراءة الضمّ ما كان غرضه في جداله الضلال لغيره عن سبيل الله ، فكيف علل به وما كان على قراءة الفتح مهتديا حتى إذا جادل خرج بالجدال عن الهدى إلى الضلال؟ أجيب عن الأوّل : بأن جداله لما أدّى إلى الضلال جعل كأنه غرضه ، وعن الثاني : بأنّ الهدى لما كان معرّضا له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال الباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. ولما ذكر فعله وثمرته ذكر ما أعدّ له عليه في الدنيا بقوله تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي : إهانة وذل وإن طال زمن استدراجه بتنعيمه حق على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه ، وما أعدّ له عليه في الآخرة بقوله تعالى : (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الذي يجمع فيه الخلائق بالإحياء بعد الموت (عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : الإحراق بالنار ، وعن الحسن قال : بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرّة ويقال له حقيقة أو مجازا.
(ذلِكَ) أي : العذاب العظيم (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي : بعملك ، ولكن جرت عادة العرب أن تضيف الأعمال إلى اليد ؛ لأنها آلة أكثر العمل وإضافة ما يؤدي إليهما أنكى (وَأَنَ) أي : وبسبب