أنّ (اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ) أي : بذي ظلم ما (لِلْعَبِيدِ) وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم أو أن المبالغة لكثرة العبيد. ونزل في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهرا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله قال هذا دين حسن وقد أصبت به خيرا ، واطمأن به ، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شرّا ، فينقلب عن دينه.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ) أي : يعمل على سبيل الاستمرار والتجدّد بما أمر الله به من طاعته (عَلى حَرْفٍ) فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره لا استقرار له ، وكالذي على طرف من العسكر ، فإن رأى غنيمة استمرّ ، وإن توهم خوفا طار وفرّ ، وذلك معنى قوله تعالى : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) أي : من الدنيا (اطْمَأَنَّ بِهِ) أي : بسببه وثبت على ما هو عليه (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) أي : محنة وسقم في نفسه وماله (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي : رجع إلى الكفر ، وعن أبي سعيد الخدريّ : «أن رجلا من اليهود أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : أقلني ، فقال : إن الإسلام لا يقال ، فنزلت» (١) ولما كان انقلابه هذا مفسدة لدنياه ولآخرته قال تعالى : (خَسِرَ الدُّنْيا) بفوات ما أمّله منها ويكون ذلك سبب التقتير عليه قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة ، ٦٦] ، وروي «إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» (٢).
(وَالْآخِرَةَ) بالكفر ، ثم عظم مصيبته بقوله تعالى : (ذلِكَ) أي : الأمر العظيم (هُوَ) أي : لا غيره. (الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي : البين إذ لا خسران مثله ثم بين هذا الخسران الذي ردّه إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفيّ بقوله تعالى :
(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٢ / ١٧ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٣٤٦ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١١٢ ، والذهبي في ميزان الاعتدال ٦٥٠٣ ، والعقيلي في الضعفاء ٣ / ٣٦٨.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٧٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٦٦١١ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٢ / ٤٨١ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ١٦٤ ، ٢٦٤.