واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (١) فابتلاهم الله تعالى بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة والقذر والأولاد (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي : يصيحون ويستغيثون ويجزعون ، وأصل الجأر رفع الصوت بالتضرع ؛ قاله البغوي ، فكأنه قيل : فهل يقبل اعتذارهم أو يرحم انكسارهم؟ فقيل : لا بل يقال لهم بلسان الحال أو المقال.
(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) فإن الجأر غير نافع لكم ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي : بوجه من الوجوه ، ومن عدم نصرنا لم يجد له ناصرا فلا فائدة لجأره إلا إظهار الجزع. ثم علل عدم نصره لهم بقوله تعالى : (قَدْ كانَتْ آياتِي) أي : من القرآن (تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي : من أوليائي وهم الهداة النصحاء (فَكُنْتُمْ) كونا هو كالجبلة (عَلى أَعْقابِكُمْ) عند تلاوتها (تَنْكِصُونَ) أي : تعرضون مدبرين عن سماعها والعمل بها ، والنكوص الرجوع القهقرى.
(مُسْتَكْبِرِينَ) عن الإيمان ، واختلف في عود الضمير في (بِهِ) فقال ابن عباس : بالبيت الحرام ، وشهرة استكبارهم وافتخارهم أنهم قوّامه أغنت عن سبق ذكره ، وذلك أنهم يقولون : نحن أهل حرم الله وجيران بيته ، فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحدا ، فيأمنون فيه ، وسائر الناس في الخوف ، وقيل : بالقرآن ، فلم يؤمنوا به ، وقوله تعالى : (سامِراً) نصب على الحال أي : جماعة يتحدثون بالليل حول البيت ، وقوله تعالى : (تَهْجُرُونَ) قرأه نافع بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش أي : تفحشون وتقولون الخنا ذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه والباقون بفتح التاء وضم الجيم ، أي : تعرضون عن النبي صلىاللهعليهوسلم وعن الإيمان وعن القرآن وترفضونها وتسمون القرآن سحرا وشعرا ، ثم إنه تعالى لما وصف حالهم ردّ عليهم بأنّ بين أن إقدامهم على هذه الأمور لا بد أن يكون لأحد أمور أربعة :
أحدها : أن لا يتأملوا في دليل نبوّته ، وهو المراد من قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي : القرآن الدال على صدق النبي صلىاللهعليهوسلم وأصل يدبروا يتدبروا أدغمت التاء في الدال.
ثانيها : أن يعتقدوا أن ما جاء به الرسول أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله تعالى : (أَمْ جاءَهُمْ) في هذا القول (ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) الذين بعد إسماعيل وقبله.
ثالثها : أن لا يكونوا عالمين بأمانته وحسن حاله قبل ادعائه النبوّة ، وهو المراد من قوله تعالى : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) أي : الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله ، وهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته ، وما جاءهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه إذا تحققت الحقائق نقيصة يذكرونها ولا وصمة يستحلونها كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه صلىاللهعليهوسلم ، وقد اتفقت كلمتهم بتسميته الأمين (فَهُمْ) أي : فتسبب عن جهلهم به أنهم (لَهُ) أي : نفسه أو القول الذي أتى به (مُنْكِرُونَ) فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به ، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبغباوتهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل ، ثم كذبوه.
__________________
(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٨٠٤ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٧٥ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٤٤٢ ، والنسائي في التطبيق حديث ١٠٧٣.