ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل له سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم إلا مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل من غير برهان.
(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي : بالبعث والثواب والعقاب (عَنِ الصِّراطِ) أي : الذي لا صراط غيره ؛ لأنه لا موصل إلى القصد غيره (لَناكِبُونَ) أي : عادلون منحرفون في سائر أحوالهم سائرون على غير منهج أصلا بل خبط عشواء.
(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ) أي : عاملناهم معاملة المرحوم في إزالة ضرره وهو معنى قوله تعالى : (وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) أي : جوع أصابهم بمكة سبع سنين (لَلَجُّوا) أي : عادوا وتمادوا (فِي طُغْيانِهِمْ) الذي كانوا عليه قبل هذا (يَعْمَهُونَ) أي : يترددون.
(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) وذلك أن النبي صلىاللهعليهوسلم دعا على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم القحط ، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال : بلى ، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فقد أكلوا الفرث والعظام والعلهز وشكا إليه الضرع فادع الله تعالى يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تنبيه : العلهز وبر يخلط بدماء اللحم ، فيؤكل في الجدب والعلهز أيضا : القراد الضخم ، وشكا بعض الأعراب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم السنة فقال (١) :
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا |
|
سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل |
وليس لنا إلا إليك فرارنا |
|
وأين فرار الناس إلا إلى الرسل |
فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «واستسقى لرفع هذه المحن» فقال الله تعالى عنهم : (فَمَا اسْتَكانُوا) أي : خضعوا خضوعا هو كالجبلة لهم وأصله طلب السكون (لِرَبِّهِمْ) أي : المحسن إليهم عقب المحنة (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي : يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو.
(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا) أي : صاحب (عَذابٍ شَدِيدٍ) قال ابن عباس : يعني القتل يوم بدر ، وهو قول مجاهد ، وقيل : هو الموت ، وقيل : هو قيام الساعة (إِذا هُمْ فِيهِ) أي : ذلك الباب مطروحون لا يقدرون منه على نوع خلاص (مُبْلِسُونَ) متحيرون آيسون من كل خير ، ثم إنه سبحانه التفت إلى خطابهم وبين عظيم نعمته من وجوه :
أحدها : ما ذكره بقوله تعالى :
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ
__________________
(١) البيتان من الطويل ، وهما بلا نسبة في لسان العرب (علهز) ، (فسل) ، (عوم) ، وتاج العروس (علهز) ، (عيهم).