وثالثها : اختلاف أحوال النبات ، ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات ، وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى : (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ) [يونس : ٦]. والاستقصاء في شرح هذه الأحوال لا يدخل تحت الحصر ، بل كل ما ذكر العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب.
(لَآياتٍ) أي : دلالات على قدرته تعالى. (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) الله فإنه يحملهم على التفكر والتذكر ، وخصهم بالذكر ؛ لأنهم المنتفعون بها. قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أنّ الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها ، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم ، بل جعلها لهم دار عمل ، وإذا كان كذلك فلا بدّ من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء ، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد.
ولما أقام الله سبحانه وتعالى الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحمن ، وعلى صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم ، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر ؛ شرع في شرح أحوال من يكفر بها ، وشرح أحوال من يؤمن بها ، وقد ابتدأ بأوّلها ووصفه بأربع صفات مبتدئا بأوّلها بقوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لا يخافونه لإنكارهم البعث ، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها ، فهم مكذّبون بالثواب والعقاب والرجاء ، يكون بمعنى الخوف ، وبمعنى الطمع ، فمن الأوّل قول العرب : فلان لا يرجو فلانا ، بمعنى لا يخافه ، ومنه قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح : ١٣] ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي (١) :
إذ لسعته النحل لم يرج لسعها
أي : لم يخفها. ومن الثاني قولهم : فلا يرجو فلانا ، ، أي : يطمع فيه ، والمعنى : لا يطمعون في ثوابنا ، والصفة الثانية والثالثة : قوله تعالى : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) فيعملون لها عمل المقيم فيها مع ما يشاهدونه من سرعة زوالها منهمكين في لذاتها وزخارفها ، وسكنوا فيها سكون من لا ينزع عنها ، والصفة الرابعة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) أي : دلائل وحدانيتنا (غافِلُونَ) تاركون النظر فيها ، بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء ، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدّة بعدهم عن طلب الاستعداد بالسعادات الأخروية ، ويحتمل أنّ الصفة الأخيرة لفريق آخر ، ويكون المراد بالأوّلين : من أنكر البعث ، ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، وبالآخر : من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له ، ولما وصفهم الله تعالى بتلك الصفات قال : (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الشرك والمعاصي ، ولما شرح أحوال المنكرين الجاحدين ذكر تعالى شرح من يؤمن بها فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك
__________________
(١) عجزه :
وخالفها في بيت نوب عواسل
والبيت من الطويل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ١٤٤ ، ولسان العرب (نوب) ، (خلف) ، (رجا) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٤٨٩ ، وتاج العروس (خلف) ، (رجا) ، وكتاب العين ٥ / ١٧٧ ، ٨ / ٣٧٩.