ولما قرر ذلك على هذا المنوال البديع قال مسببا عنه (فَلا تُطِعْهُما) أي : في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه بل خالفهما ، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك ، وربما أفهم ذلك الإعراض عنهما بالكلية فلهذا قال تعالى (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا) أي : في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دمت حيا بها (مَعْرُوفاً) ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والاحتمال وما تقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم.
ولما كان ذلك قد يجرّ إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة نفي ذلك بقوله تعالى : (وَاتَّبِعْ) أي : بالغ في أن تتبع (سَبِيلَ) أي : دين وطريق (مَنْ أَنابَ) أي : أقبل خاضعا (إِلَيَ) لم يلتفت إلى عبادة غيري وهم المخلصون ، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله تعالى ولا عن الإخلاص له.
تنبيه : في هذا حث على معرفة الرجال بالحق وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة ، فمن كان عمله موافقا لهما اتبع ، ومن كان عمله مخالفا لهما اجتنب. وإذا كان مرجع أمورهم كلها إليه في الدنيا ففي الآخرة كذلك كما قال تعالى (ثُمَّ إِلَيَ) أي : في الآخرة (مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ) أي : أفعل فعل من يبالغ في التعقيب والاختبار عقب ذلك وتبيينه لأنّ ذلك أنسب شيء للحكمة وتعقب كل شيء بحسب ما يليق به (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : تجيدون عمله من صغير وكبير ، وجليل وحقير ، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد ، فأعد لذلك عدته ، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله ، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال تعالى : وصينا بمثل ما وصى به وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يتبعا في الإشراك فما ظنكم بغيرهما ونزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثا لم تطعم فيها شيئا ، ولذلك قيل من أناب إليّ هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإن سعدا أسلم بدعوة أبي بكر له.
ثم إن ابن لقمان قال لأبيه : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله تعالى فقال : (يا بُنَيَ) مجيبا له مستعطفا مصغرا له بالنسبة إلى حلم شيء من غضب الله تعالى (إِنَّها) أي : الخطيئة (إِنْ تَكُ) وأسقط النون لغرض الإيجاز في الإيصاء (مِثْقالَ) أي : وزن ، ثم حقرها بقوله (حَبَّةٍ) وزاد في ذلك بقوله (مِنْ خَرْدَلٍ) أي : إن تكن في الصغر كحبة الخردل ، وقرأ نافع مثقال بالرفع على أنّ الهاء ضمير الخطيئة كما مر أو القصة وكان تامة ، وتأنيثها الإضافة المثقال إلى الحبة كقول الأعشى (١) :
وتشرق بالقول الذي قد ذكرته |
|
كما شرقت صدر القناة من الدم |
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو للأعشى في ديوانه ص ١٧٣ ، والأزهية ص ٢٣٨ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٢٥٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ١٠٦ ، والدرر ٥ / ١٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٤ ، والكتاب ١ / ٥٢ ، ولسان العرب (صدر) ، (شرق) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٧٨ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٠٥ ، والخصائص ٢ / ٤١٧ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥١٣ ، والمقتضب ٤ / ١٩٧ ، ١٩٩ ، وهمع الهوامع ٢ / ٤٩.