والشرق الغصة ، يقال شرق بريقه أي : غص ، والشاهد في شرقت حيث إنه لإضافة الصدر إلى القناة ، وصدرها ما فوق نصفها ، ثم أثبت النون في قوله مبينا عن صغرها (فَتَكُنْ) إشارة إلى ثباتها في مكانها وليزداد شوق النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم كل مذهب معبرا عن أعظم الخفاء وأتم الأحوال (فِي صَخْرَةٍ) أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأخفاها.
ولما أخفى وضيق أظهر ووسع ورفع وخفض ليكون أعظم لضياعها لحقارتها بقوله (أَوْ فِي السَّماواتِ) أي : في أيّ مكان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها ، وأعاد أو نصا على إرادة كل منهما على حدته بقوله (أَوْ فِي الْأَرْضِ) أي : كذلك وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في غيرهما أو في أحدهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن رياح أنه لما وعظ لقمان ابنه وقال إنها إن تك الآية أخذ حبة من خردل فأتى سبها إلى اليرموك فألقاها في عرضه ، ثم مكث ما شاء الله تعالى ، ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته ، وقال بعض المفسرين : المراد بالصخرة : صخرة عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء ، وقال الزمخشري : فيه إضمار تقديره إن تكن في صخرة أو في موضع آخر في السموات أو في الأرض ، وقيل : هذا من تقديم الخاص وتأخير العامّ وهو جائز في مثل هذا التقسيم ، وقيل : خفاء الشيء يكون بطرق : منها : أن يكون في غاية الصغر ، ومنها : أن يكون بعيدا ، ومنها أن يكون في ظلمة ، ومنها : أن يكون وراء حجاب فإذا امتنعت هذه الأمور فلا يخفى في العادة فأثبت لله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط بقوله إن تك مثقال حبة من خردل إشارة إلى الصغر ، وقوله فتكن في صخرة إشارة إلى الحجاب وقوله أو في السموات إشارة إلى البعد فإنها أبعد الأبعاد ، وقوله أو في الأرض إشارة إلى الظلمات فإن جوف الأرض أظلم الأماكن وقوله (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أبلغ من قول القائل يعلمها الله لأنّ من يظهر له شيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره ، فقوله يأت بها الله أي : يظهرها للإشهاد يوم القيامة فيحاسب بها عاملها.
(إِنَّ اللهَ) أي : الملك العظيم (لَطِيفٌ) أي : نافذ القدرة يتوصل علمه إلى كل خفي عالم بكنهه ، وعن قتادة لطيف باستخراجها (خَبِيرٌ) أي : عالم ببواطن الأمور فيعلم مستقرها ، روي في بعض الكتب أنّ هذه آخر كلمة تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها فمات.
قال الحسن : معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها.
ولما نبه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب أمره بما يدخره لذلك توسلا إليه وتخشعا لديه وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه بقوله : (يا بُنَيَ) مكرر للمناداة تنبيها على فرط النصيحة لفرط الشفقة (أَقِمِ الصَّلاةَ) أي : بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها تسببا في نجاة نفسك وتصفية سرك فإن إقامتها وهو الإتيان بها على النحو المرضي مانعة من الخلل في العمل ، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لأنها الإقبال على من وحدته ، فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثابتة للتوحيد وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيآتها اختلفت وترك ذكر الزكاة تنبيها على أنه من حكمته ، والحكمة تخليه وتخلى ولده من الدنيا حتى ما يكفيهم لقوتهم.
ولما أمره بتكميله في نفسه توفية لحق الحق عطف على ذلك تكميله لغيره بقوله (وَأْمُرْ