بِالْمَعْرُوفِ) أي : كل من تقدر على أمره تهذيبا لغيرك وشفقة على نفسك لتخليص أبناء جنسك (وَانْهَ) أي : كل من قدرت على نهيه (عَنِ الْمُنْكَرِ) حبا لأخيك ما تحب لنفسك تحقيقا لنصيحتك وتكميلا لعبادتك ، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمهالله تعالى (١) :
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها |
|
فإن انتهت عنه فأنت حكيم |
لأنه أمره أولا بالمعروف وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر ، فإذا أمر نفسه ونهاها ناسب أن يأمر غيره وينهاه ، وهذا وإن كان من قول لقمان إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به ، فإن قيل : كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وحين أمر أنه قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فقال : لا تشرك بالله ثم قال أقم الصلاة؟ أجيب : بأنه كان يعلم أنّ ابنه معترف بوجود الإله فما أمره بهذا المعروف بل نهاه عن المنكر الذي ترتب على هذا المعروف ، وأمّا ابنه فأمره أمرا مطلقا والمعروف يقدم على المنكر.
ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر قال له (وَاصْبِرْ) صبرا عظيما بحيث تكون مستعليا (عَلى ما) أي : الذي (أَصابَكَ) أي : في عبادتك وغيرها من الأمر بالمعروف وغيره سواء أكان بواسطة العباد أم لا كالمرض ، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنهما ملاك الاستعانة قال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥] وأخرج أحمد (٢) عن هشام بن عروة عن أبيه قال : مكتوب في الحكمة يعني حكمة لقمان عليهالسلام لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسيطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطايا. وقال : مكتوب في الحكمة أو في التوراة الرفق رأس الحكمة ، وقال : مكتوب في التوراة كما ترحمون ترحمون ، وقال : مكتوب في الحكمة كما تزرعون تحصدون ، وقال : مكتوب في الحكمة أحبب خليلك وخليل أبيك ، وقيل للقمان : أي الناس شر؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا ، ومن حكمته أنه قال : أقصر عن اللجاجة ولا أنطق فيما لا يعنيني ولا أكون مضحاكا من غير عجب ولا مشاء لغير أرب ، ومنها من كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله بذلك عزا ، والذل في طاعة الله أقرب من التعزز بالمعصية ، ومنها أنه كان يقول ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن : الحليم عند الغضب ، والشجاع عند الحرب ، وأخوك عند حاجتك إليه.
ولما كان ما أحكمه لولده عظيم الجدوى وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال نبه بذلك بقوله على سبيل الاستئناف أو التعليل (إِنَّ ذلِكَ) أي : الأمر العظيم الذي أوصيك به لا سيما الصبر على المصائب (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : معزوماتها تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر أي : الأمور المقطوع بها المفروضة ، أو القاطعة الجازمة وبجزم فاعلها.
ثم حذره عن الكبر معبرا عنه بلازمه لأن نفي الأعم نفي للأخص بقوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ) أي : لا تمله متعمدا إمالته بإمالة العنق متكلفا لها صرفا عن الحالة القاصدة ، قال أبو عبيدة : وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوى منه عنقه ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم بغير ألف بعد الصاد وتشديد العين ، والباقون بألف بعد الصاد وتخفيف العين ، والرسم يحتملها فإنه رسم بغير ألف
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي الأسود الدؤلي ص ٤٠٣.
(٢) انظر المسند لأحمد بن حنبل ٤ / ٤٢٧ ، ٤٣٦ ، ٤٤٥.