وهما لغتان لغة الحجاز التخفيف ، وتميم التثقيل.
ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تدوم أشار إلى المقصود بقوله (لِلنَّاسِ) بلام العلة أي : لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم وذلك لا يكون إلا تهاونا بهم من الكبر بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشرا منبسطا من غير كبر ولا عتو ، وعن ابن عباس لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك ، وقيل هو الرجل يكون بينك وبينه الشحنة فيلقاك فتعرض عنه ، وقيل هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه تكبرا ، وقيل معناه : لا تحقر الفقير ، ليكن الفقير والغني عندك سواء ، ثم أتبع ذلك ما يلزمه بقوله (وَلا تَمْشِ) وأشار بقوله (فِي الْأَرْضِ) إلى أنّ أصله تراب وهو لا يقدر أن يعدوه وسيصير إليه وأوقع المصدر موقع الحال والعلة في قوله (مَرَحاً) أي : اختيالا وتبخترا أي : لا تكن منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر بطر متكبر فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي بل أمش هونا فإن ذلك يفضي بك إلى التواضع فتصل إلى كل خير فترفق بك الأرض إذا صرت في بطنها (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له الكبرياء والعظمة (لا يُحِبُ) أي : يعذب (كُلَّ مُخْتالٍ) أي : مراء للناس في مشيه متبختر يرى له فضلا على الناس (فَخُورٍ) على الناس بنفسه يظن أن إسباغ النعم الدنيوية من محبة الله تعالى له وذلك من جهله ، فإن الله يسبغ نعمه على الكافر الجاحد فينبغي للعارف أن لا يتكبر على عباده فإن الكبر هو الذي تردى به سبحانه فمن نازعه فيه قصمه.
ولما كان النهي عن ذلك أمرا بضدّه قال : (وَاقْصِدْ) أي : اقتصد واسلك الطريق الوسطى (فِي مَشْيِكَ) بين ذلك قواما أي : ليكن مشيك قصدا لا تخيلا ولا إسراعا أي : بين مشيين لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار ، قال صلىاللهعليهوسلم : «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» (١) وأمّا قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما : كان إذا مشى أسرع ، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت ، وقال عطاء : امش بالوقار والسكينة لقوله تعالى : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) وعن ابن مسعود : كانوا ينهون عن وثب اليهود ودبيب النصارى ، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان ، قاله الرازي في اللوامع ، وهو المشي الهون الذي ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ، ولا بتكبر (وَاغْضُضْ) أي : انقص (مِنْ صَوْتِكَ) لئلا يكون صوتك منكرا وتكون برفع الصوت فوق الحاجة كالأذان فهو مأمور به ، وكانت الجاهلية يتمدحون برفع الصوت قال القائل (٢) :
جهير الكلام جهير العطاس |
|
جهير الروى جهير النغم |
وقال مقاتل : اخفض من صوتك ، فإن قيل : لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟ أجيب : بأن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوته وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن ، وأما سرعة المشي فلا تؤذي وإن آذت فلا تؤذي غير من في طريقه ، والصوت يبلغ من على اليمين واليسار ولأنّ المشي يؤذي آلة المشي ، والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإنّ الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ، ولا كذلك المشي. وأيضا فلأن قبح القول
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٤ / ٧١ ، والسيوطي في الدر المنثور ٥ / ٧٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤١٦٢٠ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ١٠ / ٢٩٠ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٥٤٧.
(٢) البيت من المتقارب ، وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (جهر).