أقبح من قبح الفعل وحسنه أحسن ، لأنّ اللسان ترجمان القلب.
ولما كان رفع الصوت فوق الحاجة منكر كما أن خفضه دونها تماوت وتكبر وكان قد أشار إلى النهي عن هذا بمن فأفهم أنّ الطرفين مذمومان علل النهي عن الأوّل بقوله (إِنَّ أَنْكَرَ) أي : أفظع وأبشع وأوحش (الْأَصْواتِ) كلها المشتركة في المكاره برفعها فوق الحاجة ، وأخلى الكلام من لفظ التشبيه ، وأخرجه مخرج الاستعارة تصوير الصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حمارا مبالغة في التهجين وتنبيها على أنه من الكراهة بمكان فقال (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي : هذا الجنس لما له من العلو المفرط من غير حاجة فإنّ كل حيوان قد يفهم من صوته أنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو لغير ذلك ، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق بصوت أوّله زفير وآخره شهيق وهما فعل أهل النار ، وأفرد الصوت ليكون نصا على إرادة الجنس لئلا يظن أنّ الاجتماع شرط في ذلك ، ولذكر الحمار مع ذلك من بلاغة الشتم والذم ما ليس لغيره ولذلك يستهجن التصريح باسمه بل يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به فيقولون الطويل الأذنين كما يكنى عن الأشياء المستقذرة وقد عد في مساوئ الأداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من ذوي المروءة ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا ، وإن بلغت منه الرحلة ، وإنما ركبه صلىاللهعليهوسلم لمخالفته عادتهم وإظهاره التواضع من نفسه ، وأمّا الرفع مع الحاجة فغير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع.
فإن قيل كيف يفهم كونه أنكر الأصوات مع أن حز المنشار بالمبرد ودق النحاس بالحديد أشد صوتا؟ أجيب : من وجهين : الأوّل : المراد أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد السؤال ، والثاني : أن الصوت الشديد لحاجة ومصلحة لا يستبشع ولا ينكر صوته كما مرت الإشارة إليه ، بخلاف صوت الحمير ، قال موسى بن أعين : سمعت سفيان الثوري يقول في قوله تعالى (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) قال : صياح كل شيء تسبيح لله تعالى إلا الحمار ، وقال جعفر الصادق في ذلك : هي العطسة القبيحة المنكرة ، وقال وهب : تكلم لقمان باثني عشر ألف كلمة من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم.
قال خالد الربعي : كان لقمان عبدا ومن حكمته أنه دفع إليه مولاه شاة فقال له : اذبحها وائتني بأطيب مضغتين فيها فأتاه باللسان والقلب ثم دفع إليه شاة أخرى فقال اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب فسأله مولاه فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
ومن حكمته أنه قال لابنه : يا بني لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته إلا جعلت في الضمير منك إن ذلك خير لك ، ثم قال لابنه : يا بني إن الله قد بعث نبيا هلم حتى نأتيه فنصدقه فخرج على حمار وابنه على حمار وتزودا ، ثم سارا أياما وليالي حتى لقيتهما مفازة فأخذا أهبتها لها فدخلا فسارا ما شاء الله تعالى حتى ظهرا وقد تعالى النهار ، واشتد الحر ، ونفد الماء والزاد ، واستبطأ حماريهما فنزلا وجعلا يشتدان على سوقهما فبينما هما كذلك إذ نظر لقمان أمامه فإذا هو بسواد ودخان فقال في نفسه : السواد الشجر والدخان العمران والناس ، فبينما هما يشتدان إذ وطئ ابن لقمان على عظم ناتئ على الطريق فخر مغشيا عليه فوثب إليه لقمان وضمه إلى صدره واستخرج العظم بأسنانه ثم نظر إليه لقمان فذرفت عيناه فقال : يا أبت أنت تبكي وأنت تقول هذا خير لي وقد