بالأنفس كما قام بالآفاق. فقال دالا على البعث : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) أي : آدم عليهالسلام (مِنْ طِينٍ) قال الرازي : ويمكن أن يقال الطين ماء وتراب مجتمعان ، فالآدمي أصله مني ، والمني أصله غذاء ، والأغذية إما حيوانية أو نباتية ، والحيوانية ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين.
(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي : ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) أي : نطفة سميت سلالة لأنها تسل من الإنسان أي : تنفصل منه وتخرج من صلبه ، ونحوه قولهم للولد : سليل ، هذا على التفسير الأول ؛ لأن آدم كان من الطين ونسله من سلالة (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي : ضعيف ، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من طين ، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي ماء مهين وهو نطفة الرجل.
وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله تعالى : (ثُمَّ سَوَّاهُ) قومه بتصوير أعضائه وإبداع المعاني على ما ينبغي (وَنَفَخَ فِيهِ) أي : آدم (مِنْ رُوحِهِ) أي : جعله حيا حساسا بعد أن كان جمادا ، وإضافة الروح إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله ، وناقة الله ، فيا له من شرف ما أعلاه ، ففيه إشعار بأنه خلق عجيب وإن له شأنا له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية ، قال البيضاوي : ولأجله أي : ولأجل كون أن له شأنا إلى آخره. روي : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (١). هذا الحديث لا أصل له ، وبتقدير أن له أصلا ليس معناه ما ذكر بل معناه ما ذكر بل معناه : من عرف نفسه وتأمل في حقيقتها عرف أن له صانعا موجدا له ، وإليه أشار بقوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] ثم ذكر ما يترتب على نفخ الروح في الجسد مخاطبا للذرية بقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ) بعد أن كنتم نطفا أمواتا (السَّمْعَ) أي : لتدركوا به ما يقال لكم (وَالْأَبْصارَ) أي : لتدركوا بها الأشياء على ما هي عليه (وَالْأَفْئِدَةَ) أي : القلوب المودعة غرائز العقول.
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم السمع على البصر والبصر على الأفئدة؟ أجيب بأن الإنسان يسمع أولا كلاما فينظر إلى قائله ليعرفه ثم يتفكر بقلبه في ذلك الكلام ليفهم معناه ، فإن قيل : ما الحكمة في ذكره المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم ، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع ؛ لأن المصدر لا يجمع؟ أجيب : بأن السمع قوة واحدة ولها محل واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه ، وإن الصوت من أي جانب كان واصل إليه ولا قدرة للأذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دون البعض ، وأما البصر فمحله العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المرئي دون غيره ، وكذلك الفؤاد محله الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره.
فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له ، والعين كالأصل ، وقوة الإبصار آلتها ، والفؤاد كذلك ، وقوة الفهم آلته ، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة ، وفي الإبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة ، ولأن السمع قوة واحدة لها محل واحد ، ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويرى في زمان واحد صورتين فأكثر ويثبتهما.
فإن قيل : لم قدم السمع هنا وقدم القول في قوله تعالى في البقرة (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) [البقرة : ٧] أجيب : بأنه تعالى عند الإعطاء ذكر الأدنى ثم ارتقى إلى الأعلى
__________________
(١) أخرجه السيوطي في الحاوي للفتاوى ٢ / ٤١٢ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٣٦٢ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٣٥١.