وجاء في الحديث الصحيح «أن الله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع» (١)؟ أجيب : بأنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في الكفر عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة ، وأن السبب الموجب للعذاب واحد وربما يكون العذاب النازل من جنس ذلك العذاب وإن كان أقل درجة وهذا القدر يكفي في التخويف.
ولما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة ليحصل تمام الاعتبار في الزجر والتحذير فقال تعالى : (وَيَوْمَ) أي : واذكر يوم (يُحْشَرُ) أي : يجمع بكره بأمر قاهر لا كلفة فيه (أَعْداءُ اللهِ) أي : الملك الأعظم (إِلَى النَّارِ) وقرأ نافع بنون مفتوحة وضم الشين ونصب أعداء على البناء للفاعل وهو الله تعالى ، والباقون بياء الغيبة مضمومة وفتح الشين على البناء للمفعول ورفع أعداء لقيامه مقام الفاعل ، وجه الأول أنه معطوف على نجينا فحسن أن يكون على وفقه في اللفظ ، ووجه الثاني موافقة قوله تعالى : (فَهُمْ) أي : بسبب حشرهم (يُوزَعُونَ) أي : يساقون ويدفعون إلى النار ، وقال قتادة : يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا أي : يوقف سوابقهم حتى تصل إليهم.
ولما بين تعالى إهانتهم بالوزع بين غايتها بقوله تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي : النار التي كانوا بها يكذبون ، فما زائدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور ، كما قال تعالى : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ) وبين الشاهد وعدده بقوله تعالى : (سَمْعُهُمْ) وأفرد السمع لعدم تفاوت الناس فيه (وَأَبْصارُهُمْ) وجمعها لعظم تفاوت الناس فيها (وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : يجددون عمله مستمرين عليه.
تنبيه : في كيفية تلك الشهادة ثلاثة أقوال ؛ أولها : أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه ، ثانيها : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني ، ثالثها : أن يظهر في تلك الأعضاء أحوالا تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه.
فإن قيل : ما السبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر مع أن الحواس خمسة وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس؟ أجيب : بأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام ، وكذلك الشم لا يتأتى حتى يصير جلدة الأنف مماسة لجرم المشموم فكانا داخلين في جنس اللمس ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج وهو من باب الكنايات كما قال تعالى : (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) [البقرة : ٢٣٥] وأراد النكاح وقال تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) [النساء : ٤٣] والمراد قضاء الحاجة وقال صلىاللهعليهوسلم : «أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه» (٢) وعلى هذا التقدير تكون الآية وعيدا شديدا في إتيان الزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ ، وقال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمت الأنفس من عملهم وعن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فضحك
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.
(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٩ / ٤٢٤.