عَفا) أي : بإسقاط حقه كله أو بالنقص منه لتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة (وَأَصْلَحَ) أي : أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس فيكون بذلك منتصرا من نفسه لنفسه (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم ، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلىاللهعليهوسلم : «ما زاد الله بعفو إلا عزا» (١)(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي : لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله فيترتب عليهم عقابه.
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ) أي : سعى في نصر نفسه بجهده (بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي : بعد ظلم الغير له وليس قاصدا التعدي عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان التعدي (فَأُولئِكَ) أي : المنتصرون لأجل دفع الظالم عنهم (ما عَلَيْهِمْ) وأكد بإثبات الجار فقال تعالى : (مِنْ سَبِيلٍ) أي : عتاب ولا عقاب لأنهم فعلوا ما أبيح لهم من الانتصار روى النسائي عن عائشة قالت : «ما علمت حتى دخلت على زينب وهي غضبى ، فأقبلت علي فأعرضت عنها حتى قال النبي صلىاللهعليهوسلم : دونك فانتصري ، فأقبلت عليها حين رأيتها قد يبس ريقها في فمها ما ترد علي شيئا ، فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم يتهلل وجهه» (٢). واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مهدرة لأنه فعل مأذون فيه فيدخل تحت هذه الآية.
(إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي : الطريق السالك الذي لا منع منه أصلا (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي : يوقعون بهم ظلمهم تعمدا عدوانا (وَيَبْغُونَ) أي : يتجاوزون الحدود (فِي الْأَرْضِ) بما يفسدها بعد إصلاحها بتهيئتها للصلاح طبعا وعلما وعملا (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : الكامل لأن الفعل قد يكون بغيا وإن كانت مصحوبا بحق كالانتصار المقرون بالتعدي فيه (أُولئِكَ) أي : البعداء من الله تعالى (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم يعم إيلامه أبدانهم وأرواحهم بما آلموا من ظلموه.
(وَلَمَنْ صَبَرَ) أي : عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى (وَغَفَرَ) أي : صرح بإسقاط العقاب والعتاب بمحي عين الذنب وأثره (فَإِنَّ ذلِكَ) أي : الفعل الواقع منه البالغ في العلو حدا لا يوصف (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : معزوماتها بمعنى المطلوبات شرعا. روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من عبد ظلم مظلمة فعفا لله إلا أعزه الله تعالى بها نصرا» (٣).
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي : الذي له صفات الكمال بأن لم يوفقه (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ) أي : يتولى أمره في الهداية بالبيان لما أخفاه الله تعالى عنه (مِنْ بَعْدِهِ) أي : بعد إضلال الله تعالى له ، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله تعالى وأن الهداية ليست في مقدر أحد سوى الله تعالى وقال تعالى : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) موضع وتراهم لبيان أن الضال لا يضع شيئا في موضعه.
ولما كان عذابهم حتما عبر عنه بالماضي فقال : (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي : يوم القيامة المعلوم مصير الظالم إليه (يَقُولُونَ) أي : مكررين لما اعتراهم من الدهش وغلب على قلوبهم من الوجل (هَلْ إِلى مَرَدٍّ) أي : إلى دار العمل (مِنْ سَبِيلٍ) أي : طريق فيتمنون حينئذ الرجوع إلى الدنيا لتدارك ما فات من الطاعات الموجبة للنجاة.
__________________
(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٨٨ ، والترمذي في البر حديث ٢٠٢٩.
(٢) أخرجه ابن ماجه حديث ١٩٨١ ، وأحمد في المسند ٦ / ٩٣.
(٣) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٤٣٦ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١١.