(وَتَراهُمْ) أي : في ذلك اليوم والضمير في قوله تعالى : (يُعْرَضُونَ عَلَيْها) يعود على النار لدلالة العذاب عليها. ثم ذكر حالهم عند عرضهم على النار بقوله تعالى : (خاشِعِينَ) أي : خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم (مِنَ الذُّلِ) لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه (يَنْظُرُونَ) أي : يبتدئ نظرهم المكرر (مِنْ طَرْفٍ) أي : تحريك الأجفان (خَفِيٍ) أي : ضعيف النظر يسارقون النظر إلى النار خوفا منها وذلة في أنفسهم كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر أن يملأ عينه منه ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها ، ويصح أن تكون من بمعنى الباء أي : بطرف خفي ضعيف من الذل ، فإن قيل : قد قال الله تعالى في صفة الكفار أنهم يحشرون عميا فكيف قال تعالى هنا : إنهم (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ)؟ أجيب : بأنهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يصيرون عميا أو أن هذا في قوم وذاك في قوم آخرين ، وقيل : ينظرون إلى النار بقلوبهم والنظر بالقلب خفي.
ولما وصف تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال تعالى : (وَقالَ) أي : في ذلك الموقف الأعظم على سبيل التعيير لهم والتبكيت والتوبيخ والتقريع (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوقعوا هذه الحقيقة سواء كان إيقاعهم لها في أدنى الرتب أو أعلاها (إِنَّ الْخاسِرِينَ) أي : الذين كملت خسارتهم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بما استغرقها من العذاب (وَأَهْلِيهِمْ) بمفارقتهم لهم ، إما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : هو يوم فوت التدارك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء ، وهذا القول يحتمل أن يكون واقعا في الدنيا أو يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ) أي : الراسخين في هذا الوصف (فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي : دائم يحتمل أن يكون من تمام كلام المؤمنين وأن يكون تصديقا من الله تعالى لهم.
(وَما كانَ) أي : ما صح ووجد (لَهُمْ) وأغرق في النفي فقال تعالى : (مِنْ أَوْلِياءَ) أي : فما لهم من ولي لأن النصرة إذا انتفت من الجمع انتفت من الواحد من باب أولى (يَنْصُرُونَهُمْ) أي : يوجدون نصرهم في وقت من الأوقات (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : الملك الأعظم ، أي : لا في الدنيا بأن يقدروا على إنقاذهم من وصف الظلم ولا في الآخرة بإنقاذهم من العذاب (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي : يوجد إضلاله إيجادا بليغا بما أفاده الفك على سبيل الاستمرار بعدم البيان أو بعدم التوفيق بعد البيان (فَما لَهُ) بسبب إضلال من له جميع صفات الكمال وأغرق تعالى في النفي بقوله سبحانه : (مِنْ سَبِيلٍ) أي : طريق إلى الحق في الدنيا وإلى الجنة في الآخرة.
ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود فقال تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي : أجيبوه بالتوحيد والعبادة فإنه الذي لم تروا إحسانا إلا وهو منه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) هو يوم القيامة (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي : الذي له جميع العظمة فإنه إذا أتى به لا يرده وإذا لم يكن له مرد منه لم يكن له مرد من غيره ومتى عدم ذلك أنتج قوله تعالى : (ما لَكُمْ) وأغرق في النفي بقوله تعالى : (مِنْ مَلْجَإٍ) أي : تلجؤون إليه (يَوْمَئِذٍ) أي : في ذلك اليوم وزاد في التأكيد بإعادة النافي وما في حيزه إبلاغا في التحذير فقال تعالى : (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي : إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائفكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم.
(فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي : عن الإجابة فيما دعوتهم إليه (فَما أَرْسَلْناكَ) أي : بما لنا من العظمة