(وَهذِهِ) أي : والحال أن هذه (الْأَنْهارُ) أي : أنهار النيل قال البيضاوي : ومعظمها أربعة : نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس ، وقال البقاعي : كأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره ونحو ذلك من أموره فقال : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي : تحت قصري أو أمري أو بين يدي في جناني وزاد في التقرير بقوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي : هذا الذي ذكرته لكم فتعلموا ببصائر قلوبكم أنه لا ينبغي لأحد أن ينازعني ، وهذا لعمري قول من ضعفت قواه وانحلت عراه.
(أَمْ أَنَا خَيْرٌ) أي : مع ما وصفت لكم من ضخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء (مِنْ هذَا) وكنى بإشارة القريب عن تحقيره ثم وصفه بما يبين مراده بقوله : (الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي : ضعيف حقير ذليل لأنه يتعاطى أموره بنفسه وليس له ملك ولا قوى يجري بها نهرا ولا ينفذ بها أمرا (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي : لا يقرب من أن يعرب عن معنى من المعاني لما في لسانه من الحبسة ، فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان ليستجلب القلوب وينعش الألباب فتكثر أتباعه ويضخم أمره ، وقد كذب في جميع قوله فقد كان موسى عليهالسلام أبلغ أهل زمانه قولا وفعلا بتقدير الله تعالى الذي أرسله له وأمره إياه ولكن اللعين أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلا لاتباعه لأن موسى عليهالسلام ما دعا بإزالة جميع حبسته بل بعقدة منها فإنه قال (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه : ٢٧ ـ ٢٨].
تنبيه : في أم من قوله أم أنا خير أقوال ؛ أحدها : أنها منقطعة فتقدر ببل التي لإضراب الانتقال وبالهمزة التي للإنكار ، والثاني : أنها بمعنى بل فقط كقوله (١) :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى |
|
وصورتها أم أنت في العين أملح |
أي : بل أنت.
الثالث : أنها منقطعة لفظا متصلة معنى قال أبو البقاء : أم هنا منقطعة في اللفظ لوقوع الجملة بعدها في اللفظ وهي في المعنى متصلة معادلة إذ المعنى : أنا خير منه أم لا وأينا خير ، قال ابن عادل : وهذه عبارة غريبة أن تكون منقطعة لفظا متصلة معنى وذلك أنهما معنيان مختلفان فإن الانقطاع يقتضي إضرابا إما إبطالا وإما انتقالا.
ثم إن فرعون اللعين ظن أن القرب من الملوك والغلبة على الأمور لا تكون إلا بكثرة الأعراض الدنيوية والتحلي بحلي الملوك ولذا قال : (فَلَوْ لا) أي : فهلا (أُلْقِيَ عَلَيْهِ) عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة «أساورة» وقرأ حفص بسكون السين ولا ألف بعدها كالأحمرة ، والباقون بفتح السين وألف بعدها فأسورة جمع سوار كحمار وأحمرة وهو جمع قلة وأساور جمع أسوار بمعنى سوار يقال : سوار المرأة وإسوارها والأصل : أساوير بالياء فعوض من حرف المد تاء التأنيث كزنديق وزنادقة وبطريق وبطارقة ، وقيل : بل هي جمع أسورة فهي جمع الجمع قاله الزجاج ، والسوار ما يوضع في المعصم من الحلية (مِنْ ذَهَبٍ) ليكون ذلك أمارة له على صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لذي الرمة في ملحق ديوانه ص ١٨٥٧ ، والأزهية ص ١٢١ ، وخزانة الأدب ١١ / ٦٥ ـ ٦٧ ، والخصائص ٢ / ٤٥٨ ، ولسان العرب (أوا) ، وبلا نسبة في الإنصاف ص ٤٧٨ ، وجواهر الأدب ص ٢١٥.