قال الرازي : وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول من وجهين ؛ أحدهما : أن النبي صلىاللهعليهوسلم لا بدّ وأن يعلم من نفسه ومتى علم كونه نبيا علم أنه لا تصدر عنه الكبائر ، وأنه مغفور له وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكا في أنه هل هو مغفور له أو لا ثانيهما : أن الأنبياء أرفع حالا من الأولياء وقد قال تعالى في حقهم (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف : ١٣] فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكا في أنه هل هو من المغفور لهم؟ فثبت ضعف هذا القول.
(قُلْ) يا أفضل الخلق لهؤلاء المصرّين على التكذيب (أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (إِنْ كانَ) أي : هذا الذي أتيتكم به وهو القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : الملك الأعظم. (وَكَفَرْتُمْ بِهِ) أي : أيها المشركون (وَشَهِدَ شاهِدٌ) واحد أو أكثر (مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : الذي جرت عادتكم أن تستفتوهم وتثقوا بهم (عَلى مِثْلِهِ) أي : مثل ما في القرآن من أنّ من وحد فقد آمن ومن أشرك فقد كفر وأن الله تعالى أنزل ذلك في التوراة والإنجيل وجميع أسفارهم فتطابقت عليه كتبهم وتضافرت به رسلهم ، وتواترت على الدعاء إليه والأمر به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام (فَآمَنَ) أي : هذا الذي شهد هذه الشهادة (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي : أوجدتم الكبر بالإعراض عنه طالبين بذلك الرياسة والفخر ، فكنتم بعد شهادة هذا الشاهد معاندين من غير شبهة فضللتم ، فوضعتم الشيء في غير موضعه ، فانسدّ عليكم باب الهداية.
واختلف في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين : هو عبد الله بن سلام شهد بنبوّة المصطفى صلىاللهعليهوسلم وآمن به ، واستكبرت اليهود فلم يؤمنوا به. كما روى أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأتاه فنظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس وجه كذاب ، وتأمّله فتحقق أنه النبيّ المنتظر ، فقال له : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبي : «ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمّه؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : أخبرني بهنّ جبريل آنفا قال : جبريل؟ قال : نعم قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٩٧] ثم قال : أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه ، وإذا سبق ماء المرأة نزعته. فقال : أشهد أنك لرسول الله حقا. ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ، فقال لهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، أيّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال أفرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فقالوا : شرّنا وابن شرّنا ، وانتقصوه فقال : هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله (١). قال سعد بن أبي وقاص : ما سمعت النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام؟ وفيه نزلت هذه الآية (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ)(٢) [الأحقاف : ١٠] وقيل : الشاهد هو موسى بن عمران قال الشعبي : قال
__________________
(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٢٩ ، ومناقب الأنصار حديث ٣٩٣٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٠٨.
(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٨١٢ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٨٣.