استقاموا أي جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الأمور التي هي منتهى العلم و (ثُمَ) للدلالة على تأخر رتبة العمل وتوقف اعتباره على التوحيد (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي : من لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي : على فوات محبوب ، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط. (أُولئِكَ) أي : العالون الدرجات (أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) خلودا لا آخر له جوزوا بذلك (جَزاءً بِما) أي : بسبب ما (كانُوا) طبعا وخلقا (يَعْمَلُونَ) أي : على سبيل التجديد المستمر.
ولما كان رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما كما ورد به الحديث حث عليه بقوله تعالى :
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))
(وَوَصَّيْنَا) أي : بما لنا من العظمة (الْإِنْسانَ) أي : هذا النوع الذي أنس بنفسه (بِوالِدَيْهِ) وقرأ : حسنا نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم الحاء وسكون السين. وقرأ الكوفيون بسكون الحاء وقبلها همزة مكسورة وفتح السين وبعدها ألف ، فهو منصوب على المصدر بفعل مقدّر ، أي : وصيناه أن يحسن إليهما إحسانا ، ومثله حسنا. وقرأ : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) أي : على مشقة (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي بمشقة الكوفيون وابن ذكوان بضم الكاف فيهما ، والباقون بالفتح ، وهما لغتان بمعنى واحد. مثل الضعف والضعف ، وقيل المضموم اسم ، والمفتوح مصدر. وليس المراد ابتداء الحمل. فإنّ ذلك لا يكون بمشقة لقوله تعالى (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) [الأعراف : ١٨٩] فحينئذ حملته كرها ووضعته كرها.
تنبيه : دلت الآية على أنّ حق الأم أعظم لأنه تعالى قال : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) فذكرهما معا ثم خص الأم بالذكر فقال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) وذلك يدل على أن حقها أعظم ، وأنّ وصول المشاق إليها بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة في هذا الباب. (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) أي من الرضاع (ثَلاثُونَ شَهْراً) كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد ، ومبالغة في الوصية بها. وفي ذلك دلالة على أنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر ، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثين شهرا ، وقال تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣] فإذا أسقطنا الحولين الكاملين ، وهي أربعة وعشرون شهرا من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر.
روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا حملت المرأة تسعة أشهر ، أرضعت أحد وعشرين شهرا. وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا وروي عن أبي بكر أنّ