الرحمة على لسان هود عليهالسلام ثم النقمة بيد الريح (سَمْعُهُمْ) وأكد النفي بتكرير النافي بقوله تعالى : (وَلا أَبْصارُهُمْ) وكذا في قوله تعالى : (وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) لمّا أردنا إهلاكهم ، وأكد بإثبات الجار بقوله تعالى : (مِنْ شَيْءٍ) أي : من الأشياء وإن قل وقال الجلال المحلي إنّ (مِنْ) زائدة وقوله تعالى : (إِذْ) معمولة لأغنى وأشربت معنى التعليل. أي : لأنهم (كانُوا) أي : طبعا وخلقا (يَجْحَدُونَ) أي : يكرّرون على ممر الزمان الجحد (بِآياتِ اللهِ) أي : الإنكار لما يعرب عن دلائل الملك الأعظم (وَحاقَ) أي : نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) لأنهم كانوا يطلبون نزول العذاب على سبيل الاستهزاء.
ولما تم المراد من الإخبار بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة ليتعظ بهم من سمع أمرهم أتبعهم من كان مشاركا لهم في التكذيب فشاركهم في الهلاك فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا) أي : بما لنا من العظمة (ما حَوْلَكُمْ) يا أهل مكة (مِنَ الْقُرى) كحجر ثمود وعاد وأرض سدوم وسبأ ومدين والأيكة وقوم لوط وفرعون وأصحاب الرس ، وغيرهم ممن فيهم معتبر (وَصَرَّفْنَا) أي : بينا (الْآياتِ) أي : الحجج البينات (لَعَلَّهُمْ) أي : الكفار (يَرْجِعُونَ) أي : ليكونوا عند من يعرف حالهم في رؤية الآيات ، حال من يرجع عن الغيّ الذي كان يرتكبه ، لتقليد أو شبهة كشفتها الآيات وفضحتها الدلالات ؛ فلم يرجعوا فكان عدم رجوعهم سبب إهلاكهم. (فَلَوْ لا) أي : فهلا ولم لا (نَصَرَهُمُ الَّذِينَ) أي : نصر هؤلاء المهلكين الذين (اتَّخَذُوا) أي : اجتهدوا في صرف أنفسهم عن دواعي العقل حتى أخذوا. (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : الملك الذي هو أعظم من كل عظيم (قُرْباناً) أي : متقربا بهم إلى الله تعالى (آلِهَةً) معه وهم الأصنام ومفعول اتخذوا الأوّل ضمير محذوف يعود على الموصول أي : هم ، وقربانا المفعول الثاني ، وآلهة بدل منه (بَلْ ضَلُّوا) أي : غابوا (عَنْهُمْ) وقت نزول النقمة. وقرأ الكسائي بإدغام اللام في الضاد ، والباقون بالإظهار (وَذلِكَ) أي : اتخاذهم الأصنام آلهة قربانا (إِفْكُهُمْ) أي : كذبهم (وَما كانُوا) أي : على وجه الدوام لكونه في طباعهم (يَفْتَرُونَ) أي : يتعمدون كذبه ، لأنّ إصرارهم عليه بعد مجيء الآيات لا يكون إلا كذلك ، لأنّ من نظر فيها مجردا نفسه عن الهوى اهتدى. (وَإِذْ) أي : واذكر إذ (صَرَفْنا) أي : أملنا (إِلَيْكَ نَفَراً) وهو اسم يطلق على ما دون العشرة وسيأتي في ذلك خلاف (مِنَ الْجِنِ) أي جنّ نصيبين اليمن ، أو جنّ نينوى (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) أي : يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس ، وأنت في صلاة الفجر في نخلة ، تصلي بأصحابك (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي : صاروا بحيث يستمعونه (قالُوا) أي : قال بعضهم لبعض ، ورضي الآخرون (أَنْصِتُوا) أي : اسكتوا ، وميلوا بكلياتكم ، واستمعوا. حفظا للأدب على بساط الخدمة وفيه تأدب مع العلم في تعلمه. قال القشيري : فأهل الحضور صفتهم الذبول والسكون والهيبة والوقار.
تنبيه : ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين : أحدهما «قال سعيد بن جبير : كان الجنّ تستمع فلما رجموا قالوا هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب ، وكان قد اتفق أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه ، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن ، فمرّ به نفر من أشرار جنّ نصيبين ، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم ، فسمعوا القرآن فعرفوا أن ذلك