مسلما مخلصا مطيعا ، وكان من تقواه إنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها قط (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي بارا لطيفا بهما محسنا إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى أعظم من بر الوالدين يدل عليه قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الآية (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) الجبار المتكبر وقيل الذي يقتل ويضرب على الغضب ، وقيل الجبار الذي لا يرى لأحد على نفسه حقا وهو التعظيم بنفسه يرى أن لا يلزمه قضاء لأحد (عَصِيًّا) قيل هو أبلغ من المعاصي والمراد وصف يحيى بالتواضع ولين الجانب وهو من صفات المؤمنين (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) معناه وأمان له من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم وأمان له يوم يموت من عذاب القبر ويوم يبعث حيا من عذاب يوم القيامة ، وقيل أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد لأنه يرى نفسه خارجا من مكان قد كان فيه ، ويوم يموت لأنه يرى قوما ما شاهدهم قط ، ويوم يبعث لأنه يرى مشهدا عظيما فأكرم الله تعالى يحيى في هذه المواطن كلها فخصه بالسلامة فيها.
قوله عزوجل (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) أي في القرآن (مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) أي تنحت واعتزلت (مِنْ أَهْلِها) أي من قومها (مَكاناً شَرْقِيًّا) أي مكانا في الدار ما يلي المشرق ، وكان ذلك اليوم شاتيا شديد البرد فجلست في مشرقه تفلي رأسها وقيل إن مريم كانت قد طهرت من الحيض فذهبت تغتسل ، قيل ولهذا المعنى اتخذت النصارى المشرق قبلة (فَاتَّخَذَتْ) أي فضربت (مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) قال ابن عباس أي سترا وقيل جلست وراء جدار ، وقيل إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينما هي تغتسل من الحيض قد تجردت ، إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه سوي الخلق فذلك.
قوله تعالى (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) يعني جبريل (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أي سوي الخلق لم ينقص من الصورة الآدمية شيئا ، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ، وقيل المراد من الروح روح عيسى جاءت في صورة بشر فحملت به والقول الأول أصح ، فلما رأت مريم جبريل عليهالسلام يقصد نحوها بادرته من بعيد (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي مؤمنا مطيعا لله تعالى ، دل تعوذها من تلك الصورة الحسنة على عفتها وورعها. فإن قلت إنما يستعاذ من الفاجر فكيف قالت إن كنت تقيا. قلت هذا كقول القائل إن كنت مؤمنا فلا تظلمني أي ينبغي أن يكون إيمانك مانعا من الظلم ، كذلك ها هنا معناه ينبغي أن تكون تقواك مانعة لك من الفجور (قالَ) لها جبريل عليهالسلام (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ) أسند الفعل إليه وإن كانت الهبة من الله تعالى لأنه أرسل به (لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) قال ابن عباس ولدا صالحا طاهرا من الذنوب (قالَتْ) مريم (أَنَّى يَكُونُ لِي) أي من أين يكون لي (غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي ولم يقربني زوج (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي فاجرة تريد أن الولد إنما يكون من نكاح أو سفاح ولم يكن ها هنا واحد منهما (قالَ) جبريل (كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ) أي هكذا قال ربك (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي خلق ولدك بلا أب (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي علامة لهم ودلالة على قدرتنا (وَرَحْمَةً مِنَّا) أي ونعمة لمن تبعه على دينه إلى بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي محكوما مفروغا من لا يرد ولا يبدل. قوله عزوجل (فَحَمَلَتْهُ) قيل إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست الدرع ، وقيل مد جيب درعها بإصبعه ثم نفخ في الجيب ، وقيل نفخ في كمها وقيل في ذيلها ، وقيل في فيها ، وقيل نفخ من بعيد فوصل النفخ إليها فحملت بعيسى عليهالسلام في الحال (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) أي فلما حملته تنحت بالحمل وانفردت (مَكاناً قَصِيًّا) أي بعيدا من أهلها.
قال ابن عباس : أقصى الوادي ، وهو بيت لحم فرارا من أهلها وقومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج.