آتيناهم من النعماء وكشفنا عنهم الضر والبلاء (فَتَمَتَّعُوا) لفظه أمر والمراد منه التهديد والوعيد. يعني : فعيشوا في اللذة التي أنتم فيها إلى المدة التي ضربها الله لكم (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعني عاقبة أمركم إلى ماذا تصير ، وهو نزول العذاب بكم. قوله سبحانه وتعالى (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً) قيل الضمير في قوله : لما لا يعلمون عائد إلى المشركين يعني أن المشركين لا يعلمون. وقيل : إنه عائد إلى الأصنام يعني أن الأصنام لا تعلم شيئا البتة لأنها جماد والجماد لا علم له ، ومنهم من رجح القول الأول لأن نفي العلم عن الحي حقيقة ، وعن الجماد مجاز فكان عود الضمير إلى المشركين أولى ، ولأنه قال لما لا يعلمون فجمعهم بالواو والنون ، وهو جمع لمن يعقل ومنهم من رجح القول الثاني. قال : لأنا إذا قلنا أنه عائد إلى المشركين احتجنا فيه إلى إضمار فيكون المعنى : ويجعلون يعني المشركين لما لا يعلمون أنه إله ولا إله حتى نصيبا وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نحتج إلى هذا الإضمار لأنها لا علم لها ، ولا فيهم وقوله (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) يعني أن المشركين جعلوا للأصنام نصيبا من حروثهم وأنعامهم وأموالهم التي رزقهم الله ، وقد تقدم تفسيره في سورة الأنعام (تَاللهِ) أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة ، وهو قوله تعالى (لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) يعني عما كنتم تكذبون في الدنيا في قولكم ، إن هذه الأصنام آلهة وإن لها نصيبا من أموالكم ، وهذا التفات من الغيبة إلى الحضور ، وهو من بديع الكلام وبليغه (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) هم خزاعة وكنانة قالوا : الملائكة بنات الله وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء ، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم (سُبْحانَهُ) نزه الله نفسه عن الولد والبنات (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) يعني : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني البنين (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) البشارة عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به ، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه كان كذلك الحزن ، والغم يظهر أثره على الوجه وهو الكمودة التي تعلو الوجه ، عند حصول الحزن والغم فثبت بهذا أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن ، فصح قوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) يعني متغيرا من الغم والحزن والغيظ والكراهة التي حصلت له عند هذه البشارة ، والمعنى أن هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت الأنثى أن تنسب إليه فكيف يرضي أن ينسبها إلى الله تعالى ففيه تبكيت لهم وتوبيخ. وقوله سبحانه وتعالى (وَهُوَ كَظِيمٌ) يعني أنه ظل ممتلئا غما وحزنا (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) يعني أنه يختفي من ذلك القول الذي بشر به ، وذلك أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم ، توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن كان ولدا ابتهج بذلك وظهر وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياما حتى يفكر ما يصنع بها وهو قوله تعالى (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) يعني على هوان ، وإنما ذكر الضمير في أيمسكه لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله ، وإذا بشر أحدهم (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) يعني أم يخفي الذي بشر به في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء قال أهل التفسير : إن مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون البنات أحياء ، والسبب في ذلك إما خوف الفقر وكثر العيال ولزوم النفقة أو الحمية فيخافون عليهن من الأسر ونحوه ، أو طمع غير الأكفّاء فيهن فكان الرجل من العرب في الجاهلية ، إذا ولدت له بنت أراد أن يستحييها تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبة من صوف أو شعر ، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية ، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية ، قال لأمها : زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ويكون قد حفر لها حفرة في الصحراء فإذا بلغ بها تلك الحفرة قال لها : انظري إلى هذه البئر فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر ، ثم يهيل التراب على رأسها وكان صعصعة عم (١) الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه بإبل إلى والد البنت حتى يحييها بذلك فقال الفرزدق يفتخر بذلك :
__________________
(١). قوله صعصعة عم كذا بالنسخ التي بأيدينا والصواب جد وكذا قوله (وعمي الذي) الصواب وجدي الذي كما هو مقرر في كتب الأدب ا ه.