بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى» وقوله سبحانه وتعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن قلت : من عمل صالحا يفيد العموم فما فائدة الذكر والأنثى؟ قلت : هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر وأطلق ، كان الظاهر تناوله للذكر دون الأنثى فقيل من ذكر أو أنثى على التبيين ، ليعلم الوعد للنوعين جميعا وجواب آخر وهو أن الآية واردة بالوعد بالثواب والمبالغة في تقرير الوعد ، من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتا للتأكد ، وإزالة لوهم التخصيص ، وقوله : وهو مؤمن ، جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصالح موجبا للثواب (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) قال سعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال ، وقال مقاتل : هي العيش في الطاعة ، وقيل : هي حلاوة الطاعة. وقال الحسن هي القناعة وقيل رزق يوم بيوم ، واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا ، وإن كان فقيرا أطيب من عيش الكافر وإن كان غنيا لأن المؤمن لما علم أن رزقه من عند الله ، وذلك بتقديره وتدبيره وعرف أن الله محسن كريم متفضل لا يفعل إلا الصواب ، فكان المؤمن راضيا عن الله وراضيا بما قدره الله له ورزقه إياه ، وعرف أنه له مصلحة في ذلك القدر الذي رزقه إياه فاستراحت نفسه من الكد والحرص فطاب عيشه بذلك وأما الكافر أو الجاهل بهذه الأصول الحريص على طلب الرزق فيكون أبدا في حزن وتعب وعناء وحرص وكد ولا ينال من الرزق إلا ما قدر له فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره.
وقال السدي : الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا وتعبها. وقال مجاهد وقتادة : في قوله فلنحيينه حياة طيبة هي الجنة. وروى العوفي عن الحسن ، قال : لا تطيب لأحد الحياة إلا في الجنة لأنها حياة بلا موت ، وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاة ، فثبت بهذا أن الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة ، ولقوله في سياق الآية (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لأن ذلك الجزاء إنما يكون في الجنة. قوله عزوجل : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢))
(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الخطاب فيه للنبي صلىاللهعليهوسلم ويدخل فيه غيره من أمته ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم لما كان غير محتاج إلى الاستعاذة ، وقد أمر بها فغيره أولى بذلك ، ولما كان الشيطان ساعيا في إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم وكانت الاستعاذة بالله مانعة من ذلك ، فلهذا السبب أمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين بالاستعاذة عند القراءة ، حتى تكون مصونة من وسواس الشيطان عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي صلاة ، قال عمر : ولا أدري أي صلاة هي. قال : الله أكبر كبيرا ثلاثا والحمد لله كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخته ونفثته وهمزته. قال : نفخته الكبر ونفثته السحر وهمزته المونة أخرجه أبو داود. المونة الجنون والفاء في قوله فاستعذ بالله للتعقيب. فظاهر لفظ الآية يدل على أن الاستعاذة بعد القراءة ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول أبي هريرة وإليه ذهب مالك وجماعة وداود الظاهري. قالوا : لأن قارئ القرآن يستحق ثوابا عظيما وربما حصلت الوساوس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أم لا؟ فإذا استعاذ بعد القراءة اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصا فأما مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار ، فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة ، قالوا : ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن ، فاستعذ بالله ومثله قوله سبحانه وتعالى «إذا قمتم إلى