فلما رأى ذلك أهل الإيمان جعلوا يصبرون للعذاب والقتل ، فقتلهم وقطع لحومهم ، وربطها على سور المدينة ونواحيها كلّها ، وعلى كلّ باب من أبوابها حتى عظمت المحنة على المسلمين. فلما رأى الفتية ذلك قاموا وصلّوا واشتغلوا بالتسبيح والدّعاء إلى الله ، وكانوا من أشراف الرّوم ، وكانوا ثمانية نفر ، فبكوا وتضرّعوا وجعلوا يقولون : ربّنا ربّ السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفعها عنهم.
فبينا هم كذلك إذ دخلوا عليهم الشّرط إلى مصلّاهم فوجدوهم سجودا يبكون ويتضرّعون إلى الله ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفتنته ، فقالوا لهم : ما خلفكم من أمر الملك ، انطلقوا اليه.
ثم خرجوا من عندهم الى دقيانوس وأخبروه بخبرهم ، وقالوا : أنت تجمع الجمع وهؤلاء الفتية يعصون أمرك ، فأرسل إليهم الشّرط فأتوا بهم تفيض أعينهم من الدّمع ، معفورة وجوههم بالتراب ، فقال دقيانوس : ما منعكم أن تشهدوا الذبح للأصنام ، وتعبدوها وتجعلوا أنفسكم كغيركم ، إختاروا إمّا تعبدوا الأصنام مثل الناس ، وإما أن نقتلكم.
فقال مكسلمينا (١) : إن لنا إلها تملأ السموات والأرض عظمته ، لن ندعو من دونه إلها أبدا ، ولن نفعل هذا الذي تدعونا إليه ، ولكنّا نعبد الله ونسبحه ونحمده خالصا من أنفسنا ، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة ، وأما الأصنام فلا نعبدها أبدا ، إصنع بنا ما بدا لك) (٢).
وقال الضحاك : (قال أصحاب مكسلمينا كلهم لدقيانوس مثل هذه المقالة ، فقال دقيانوس : إنّي سأؤخّركم ، وأمهلكم حتى تراجعوا عقولكم ، واجعل لكم مدّة تتشاورون فيها ، فإن أبيتم طاعتي وخالفتم أمري وقعت بكم العقوبة ، وما منعني أن أعجّل قتلكم إلّا أنّي أراكم شبابا جديدا شبابكم ، فلا أحبّ أن أهلككم حتى أجعل
__________________
(١) في جامع البيان : النص (١٧٢٧٠) ؛ قال الطبري : (وهم ثمانية نفر : رئيسهم مكسلمينا ، وهم أبناء عظماء المدينة).
(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٢٦٩ و ١٧٢٧٠).