قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً ؛) من دون أن يظهر فيه لون الدم ولا رائحة الفرث ، (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) (٦٦) ؛ أي متيسّر الجري في الحلق ، لا يغصّ به شاربه. وإنما لم يقل في بطونها ؛ لأن الأنعام والنّعيم واحد ، فكأنه ردّ الكناية إلى النّعيم. وفي قوله تعالى (نُسْقِيكُمْ) قرآءتان : فتح النون وضمّها ، يقال سقى وأسقى بمعنى واحد.
قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ؛) أراد بالسّكر المسكر ؛ وهو من العنب الخمر ، ومن النّخيل نقيع التّمر إذا غلى واشتدّ ، نزلت هذه الآية وهما لهم حلال يومئذ ، هكذا قال ابن عبّاس ، والرّزق الحسن : ما أحلّ منها مثل الخلّ والزبيب والتّمر.
وسئل بعضهم عن هذه الآية فقال : (السّكر ما حرّم من ثمرها ، والرّزق الحسن ما حلّ من ثمرها) (١). قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٦٧) ؛ دلائل الله.
قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ؛) أي وألهم ربّك النحل وعرّفها ووفّر عليها ودعاها إلى ما هو مذكور في هذه الآية ، وسمّى الإلهام وحيا ؛ لأن الوحي هو ظهور المعنى للنّفس على وجه خفيّ ، وقد ألهم الله كلّ دابة التماس منافعها واجتناب مضارّها ، إلّا أنّ أمر النحل أعجب ؛ لأن فيها من لطيف الصّنعة ما فيه أعظم معتبر ، فإنّ الله ألهمها اتخاذ المنازل والمساكن ، وأن تأكل من كلّ الثمرات لمنافع بني آدم ، وأن لا تقذف ما أكلته بعد ما صار عسلا إلا على حجر صاف أو مكان نظيف لا يخالطه طين ولا تراب.
قوله تعالى : (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ ؛) فهي تتخذ من الجبال بيوتا إذا لم تكن لأحد ، وقوله تعالى : (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (٦٨) ؛ يعني مما يبني
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦٣٨٨) بأسانيد عن ابن عباس. وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٢٥٥٩). والحاكم في المستدرك : تفسير سورة النحل : الأثر (٣٤٠٦) وقال : حديث صحيح.