بعد غروب الشمس ، وهي علم للموقف ، سمي بالجمع ، منصرف ، ولا اعتبار للتاء في اللفظ ، لأنها علامة الجمع مع الألف قبلها ، ولا يجوز تقدير التاء للتأنيث كما في زينب ، لأن هذه التاء مانعة من التقدير لاختصاص الصيغة بجمع المؤنث ، وقيل : التنوين فيها ليس للصرف لكونه نظير النون في مسلمين (١) ، وسمي الموقف بها لاعتراف الناس فيه بالذنوب أو لأن آدم عليهالسلام لما رأى حواء فيه عرفها ، قيل : فيه دليل على أن الوقوف بعرفة واجب ، لأن الإفاضة لا يكون إلا بعد الوقوف بها (٢) ولأن النبي عليهالسلام قال : «الحج عرفة» (٣) ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج ، والمعنى : أنكم إذا وقفتم بعرفات ثم رجعتم من الوقوف زائرين البيت بمكة (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتلبية والتهليل والتكبير والدعاء (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) أي بالقرب منه والمشعر المعلم ، أي معلم لعباد الله ووصف بالحرام لحرمته (٤) ، والمراد به المزدلفة وجميعها موقف إلا المحسر ، وسمي بالمزدلفة لأن آدم اجتمع فيها حواء ودنا منها وقد تسمى جمعا لذلك أو لأن فيها يجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء في وقت واحد (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي كما أرشدكم لدينه وعلمكم كيف تذكرونه فلا تعدلوا عنه في إتيان مناسك حجه (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل الهدي (لَمِنَ الضَّالِّينَ) [١٩٨] أي الجاهلين بعادته وذكره لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه ، و «إن» هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة.
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩))
ونزل حين كان قريش وأتباعها يقفون بالمزدلفة ولا يخرجون من الحرم إلى عرفات ترفعا على الناس قائلين : نحن أهل الله وسكان حرمه لئلا يساويهم في الموقف والناس من أهل اليمن وغيرهم يقفون خارج الحرم بعرفات ويفيضون منها فأمر الله لهم أن يقفوا حيث يقف الناس ويفيضوا من حيث يفيضون قوله (٥)(ثُمَّ أَفِيضُوا) أي ارجعوا (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي من عرفات ولا تكن إفاضتكم من المزدلفة ، و «ثم» لإظهار بعد ما بين الإفاضتين الصواب والخطأ ، وأراد ب «الناس» جميعهم إلا الحمس وهم قريش سميت به لشجاعتهم (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من مخالفتكم في الوقوف ونحوه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن تاب عن ذنبه (رَحِيمٌ) [١٩٩] بإثابته (٦) في الجنة فأمر النبي عليهالسلام أبا بكر رضي الله عنه أن يخرج بالناس جميعا إلى عرفات فيقف بها ، روي : «ان الله يباهي ملائكته بأهل عرفات ويقول انظروا إلى عبادي جاؤا من كل فج عميق شعثا غبرا اشهدوا أني غفرت لهم» (٧).
(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠))
ثم قال تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) أي إذا فرغتم من أداء أمور الحج (فَاذْكُرُوا اللهَ) باللسان ، يعني اذكروه بالتكبير والثناء عليه (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) في ذلك الموقف بمنى ، أي بالغوا في ذكره بالكثرة كما تفعلون في ذكر آبائكم وكانت العرب إذا فرغت من حجتها وقفت فيه فذكرت مفاخر آبائهم ثم يتفرقون ، قوله (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أي أكثر ذكرا في موضع الجر ، عطف على «كم» في «ذكركم» ، تقديره : أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا لآبائكم أو (أَشَدَّ) نصب بمضمر ، تقديره : أو اذكروه ذكرا أشد من ذكركم لآبائكم ثم أشار تعالى إلى اختلاف أغراض الناس بالدعاء في الحج بقوله (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) وهم المشركون (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) أي ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا وإماء ومالا ولم يسألوا التوبة والمغفرة فقال تعالى (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [٢٠٠] أي نصيب ،
__________________
(١) لعله اختصره من الكشاف ، ١ / ١١٩.
(٢) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ١ / ١١٩.
(٣) رواه الترمذي ، الحج ، ٥٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١١٩.
(٤) لحرمته ، ب م : لحرمة ، د.
(٥) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ١٩٤.
(٦) باثابته ، ب م : بانابته ، د.
(٧) انظر السمرقندي ، ١ / ١٩٤. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.