قرئ بالباء والثاء (١) من الكثرة ، أي وافر من الفحش والمخاصمة والعداوة بسببهما (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) من اللذة واستمرار الطعام وكسب المال بالتجارة في الخمر ونيل المال بلا تعب في الميسر وانتفاع الفقراء بلحم الجزور ، روي في صفة الميسر : أنهم كانوا يشترون جزورا في الجاهلية وينحرونها ويجزؤنها عشرة أجزاء ثم يضربون سهامهم بالقدح ، يعني يعين كل واحد سهمه بقدح موسوم به ، ويتركون قدحا بلا نصيب موسوما باسم رجل ، ويجعلون جميع الأقداح في خريطة ، ويضعونها على يد عدل ، ثم يدخل يده فيخرج باسم رجل قدحا منها ، فمن خرج سهمه أولا يأخذ نصيبه من اللحم ، ولا يكون من الثمن عليه شيء ومن خرج قدحه بلا نصيب كان عليه ثمن الجزور ، ولا شيء له من اللحم ، ويطعمونها الفقراء وهم لا يطعمون منها ، ويفتخرون بذلك (٢) ، والمراد من الميسر هنا جميع القمار ، فتركهما بعض الناس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركهما كثير منهم ، وقالوا : نأخذ منفعتهما ونترك إثمهما ، ثم نزلت آية (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(٣) حين قرأ بعضهم (أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)(٤) في الصلوة بترك (لا) في (لا أَعْبُدُ) ، فترك الخمر بعض الناس ، وشربها بعضهم في غير أوقات الصلوة حتى نزلت آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ)(٥) إلى آخرها حين شرب قوم في دعوة عتاب بن مالك ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا وتهاجوا فضرب بعضهم رأس بعض بلحيي بعير فشجه موضحة فشكا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال عمر رضي الله عنه : «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا» ، فلما نزلت الآية إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(٦) قال عمر : انتهينا يا رب ، فصار شربها حراما عليهم حتى قال البعض : ما حرم علينا شيء أشد من الخمر ، وهي ما غلا واشتد وقذف الزبد بلا طبخ النار من عصير العنب يحد شاربها ويفسق ويكفر مستحلها بالإجماع ، وأصل الخمر الستر ، لأنها تستر العقول ، قيل : كل ما أسكر من كل شراب حرام قليله وكثيره عند أكثر الفقهاء ، منهم الشافعي رحمهالله ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يحرم إلا المتخذ من عصير العنب والرطب ونقيع الزبيب والتمر والقدر المسكر من كل شراب حالة الشرب (٧) ، قال النبي عليهالسلام : «من شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة» (٨) ، والميسر مفعل من اليسر ضد العسر ، وهو قمار العرب ، سمي به لأن الإنسان يأخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير تعب ، قال علي رضي الله عنه : «النرد والشطرنج ميسر» (٩) ، ويشير به إلى أنهما حرام ، وعن النبي عليهالسلام : «إياكم وهاتين اللعبتين المشؤمتين فانهما من ميسر العجم» (١٠)(وَإِثْمُهُما) أي عقاب الإثم في تناولهما بعد التحريم (أَكْبَرُ) أي أعظم (مِنْ نَفْعِهِما) قبل التحريم ، وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار والطرب فيهما وغيرهما مما ذكر (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) أي أي شيء يتصدقون من الأموال (قُلِ الْعَفْوَ) بالنصب أي ينفقون العفو ، أي الفضل عن قدر الحاجة لنفسه وعياله ، فكانوا يكتسبون وينفقون الفاضل عن الحاجة في عهد النبي عليهالسلام ، ثم نسخ بآية الزكوة (١١) ، وقرئ بالرفع (١٢) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي المنفق العفو (كَذلِكَ) أي مثل هذا التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) من الأمر والنهي (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [٢١٩]) فتسعون فيما هو صلاحكم.
__________________
(١) «كبير» : قرأ الأخوان بالثاء المثلثة ، والباقون بالباء الموحدة. البدور الزاهرة ، ٤٩.
(٢) أخذ هذا المعنى عن الكشاف ، ١ / ١٢٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦.
(٣) النساء (٤) ، ٤٣.
(٤) الكافرون (١٠٩) ، ٤.
(٥) المائدة (٥) ، ٩٠.
(٦) المائدة (٥) ، ٩١.
(٧) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ٢٠٣ ؛ والبغوي ، ١ / ٢٨٢ ـ ٢٨٤ ؛ والكشاف ، ١ / ١٢٦ ـ ١٢٧.
(٨) رواه مسلم ، الأشربة ، ٧٣ ؛ وأبو داود ، الأشربة ، ٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٢٨٤.
(٩) انظر البغوي ، ١ / ٢٨٦ ؛ والكشاف ، ١ / ١٢٧. ولم أعثر عليه بهذا اللفظ في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.
(١٠) أخرج نحوه أحمد بن حنبل ، ١ / ٤٤٦ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٢٧.
(١١) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢٠٣.
(١٢) «العفو» : قرأ أبو عمرو برفع الواو والباقون بالنصب. البدور الزاهرة ، ٤٩.