الدواة (١) والقلم (فَرِهانٌ) جمع رهن ، وقرئ «رهن» (٢) جمعه (٣) أيضا ، أي فالتوثق رهن (مَقْبُوضَةٌ) أي مسلمة إلى المرتهن ولا بد من القبض خلافا لمالك ، وإنما شرط السفر في الارتهان مع أن الارتهان لا يختص به سفر دون حضر ، لأن السفر لما كان مظنة عدم الكتب والإشهاد أمر بالارتهان ليقوم مقامهما تأكيدا وتوثيقا لحفظ المال (٤)(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي وثق طالب الحق على المطلوب ، لأنه علمه أمينا فلم يطلب منه الرهن (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) قرئ بسكون الهمز وضمه بمعنى واحد (٥) ، أي فليقض المطلوب الأمين ما في ذمته من الدين من غير رهن منه (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في أداء الدين من غير مطل.
ثم خاطب الشهود بالتهديد من كتمان الشهادة بقوله (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) إذا دعيتم إلى الحاكم لأدائها على وجهها (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ) أي فاجر (قَلْبُهُ) وهو رفع ب (آثِمٌ) على الفاعلية ، ويجوز كونه مبتدأ و (آثِمٌ) خبره ، والجملة خبر «إن» ، أسند ال (آثِمٌ) إلى القلب لما عرف أن إسناد الفعل إلى القلب أبلغ من إسناده إلى الجارحة التي تعمله به ، وفيه إشارة إلى أن ذلك من معاظم الذنوب ، لأن القلب أصل في أفعال الجوارح ، ولأنه محل النيات ، فيكون أقوى في الإثم ، قيل : المراد به مسخ القلب (٦) ، عن ابن عباس رحمهالله : «أكبر الكبائر الشرك بالله وشهادة الزور وكتم الشهادة» (٧)(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [٢٨٣] من إقامة الشهادة وكتمانها.
(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))
قوله (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي له الملك كله فيهما وحكمه نافذ في أهلهما ، فلا تعبدوا أحدا سواه ولا تعصوه فيما يأمركم وينهاكم ، نزل لتأكيد تهديد عباده من العصيان (٨)(وَإِنْ تُبْدُوا) أي إن تظهروا (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) أي في قلوبكم (أَوْ تُخْفُوهُ) من المعصية ككتمان الشهادة وموالاة المشركين وغيرهما من المناهي (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي يجازيكم به ، قيل : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين مشقة شديدة ، وقالوا : يا رسول الله! إنا لنحدث أنفسنا بالمعصية ولا نعمل بها فنزل قوله (٩)(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ)(١٠) فنسخت به (١١) ، قال صلىاللهعليهوسلم : «إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا
__________________
(١) الدواة ، ب م : الدوات ، س.
(٢) «فرهان» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم الراء والهاء من غير ألف ، والباقون بكسر الراء وفتح الهاء وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٥٧.
(٣) جمعه ، ب م : جمع ، س.
(٤) وإنما شرط السفر في الارتهان مع أن الارتهان لا يختص به سفر دون حضر لأن السفر لما كان مظنة عدم الكتب والإشهاد أمر بالارتهان ليقوم مقامهما تأكيدا وتوثيقا لحفظ المال ، ب : وإنما شرط السفر في الارتهان لا يختص به سفر دون حضر لأن السفر لما كان مظنة عدم الكتب والإشهاد أمر بالارتهان ليقوم مقامهما تأكيدا وتوثيقا لحفظ المال ، س ، ـ م.
(٥) «الذي اؤتممن» : أبدل همزه حال الوصل ورش والسوسي وأبو جعفر ياء خالصة لأن همزة الوصل تذهب في الدرج فيصير قبل الهمزة كسرة ، والكسرة لا يجانسها إلا الياء ، وكذلك قرأ حمزة عند الوقف علي «اؤتمن» ، أما لو وقفت علي الذي وابتدأت بقوله «اؤتمن» فحينئذ يجب الابتداء لكل القراء بهمزة مضمومة وهي همزة الوصل وبعدها واو ساكنة لأن أصله أؤتمن بهمزتين الأولي مضمومة وهي همزة الوصل ، والثانية ساكنة وهي فاء الكلمة ، فيجب ابدال الثانية حرف مد مجانسا لحركة ما قبلها عملا بقول الشاطبي وإبدال أخري الهمزتين لكلهم. البدور الزاهرة ، ٥٧ ـ ٥٨.
(٦) أخذه المؤلف عن البغوي ، ١ / ٤١٤.
(٧) انظر الكشاف ، ١ / ١٥٨.
(٨) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ١ / ٤١٤.
(٩) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٣٩ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٧٨ (عن أبي هريرة) ؛ والبغوي ؛ ١ / ٤١٥ (عن أبي هريرة).
(١٠) البقرة (٢) ، ٢٨٦.
(١١) أخذه المؤلف عن البغوي ، ١ / ٤١٤ ؛ وانظر أيضا قتادة بن دعامة السدوسي ، كتاب الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالي (التحقيق : حاتم صالح الضامن) ، ١٤٠٩ ـ ١٩٨٨ ، بيروت ، ٣٧ (عن قتادة) ؛ وأبو جعفر النحاس ، ٨٥ ، ٨٦ ؛ وهبة الله بن سلامة ، ٢٠ ، ٢١ ؛ وابن الجوزي ، ٢١.