وعطف بيان ، خبره (رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) لأنه وجد بقوله لعيسى «كن» فكان من غير أب ، ومحل (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) حال ، وقد معه مقدرة ، أي والحال أن الله أخبرها بالكلمة من غير أب ولا نطفة ، قيل : «أتى جبرائيل فينفخ في جيب درع مريم ، فدخلت تلك النفخة بطنها فتحرك عيسى في بطنها» (١) ، قوله (وَرُوحٌ مِنْهُ) عطف على (رَسُولُ اللهِ) وسمي روحا ، لأنه وجد بمجرد النفخ من غير جزء من ذي جسد حي كالنطفة المنفصلة من الأب ، وأضيف إلى (اللهِ) بقوله منه تشريفا له ، ثم قال (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي وبما جاءكم رسله منه أنه واحد في الألوهية لا شريك له ولا ولد له ولا نسبة بينه وبين عيسى ، فانه جزء من مريم لا من الله ، خلق من غير أب ، ومركب مثلها (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي الآلهة ثلثة ، والله ثالث ثلثة (انْتَهُوا) يكن الانتهاء عنه (خَيْراً لَكُمْ) من القول به ، يعني توبوا إلى الله بالتوحيد ولا تصروا على الكفر (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) وتأكيده قوله (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي نزه نفسه عن ذلك تنزيها ، ثم بين تنزيهه بقوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الخلق ، يعني كل ما فيهما ملكه ، فكيف يصح أن يكون بعض ملكه جزء له على أن الجزء انما يكون بالتركيب والجسم وهو منزه عن صفات الأعراض والأجسام (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) [١٧١] أي شاهدا يشهد على أنه واحد وإن لم يشهد غيره أو كفى وكيلا يكل الخلق إليه أمورهم لافتقارهم إليه وهو الغني عنهم.
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢))
قوله (٢)(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) نزل حين قال وفد نجران للنبي عليهالسلام عند المناظرة به في أمر عيسى : إنك تسب عيسى بقولك إنه عبد الله (٣) ، فقال تعالى لا يأنف المسيح عيسى (٤) أن يكون عبد الله ، يعني أنه مقر بعبوديته له تعالى ، يقال نكف واستنكف إذا أنف ، وأصله تنحية الدمع (٥) من الخد (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) عطف على «المسيح» وهو الظاهر في أداء الغرض من الكلام بخلاف عطفه على اسم «يكون» (٦) ، أي ولا حملة العرش يأنفون أن يكونوا عيدا لله ، فانهم أقرب إليه من عيسى ، فكيف يأنف عيسى وهو عبد من عباده ، ويدل على أن عبيدا هو المحذوف (٧) قوله (عَبْداً لِلَّهِ) ، ولو لم يقدر الحذف فيه لم يصح العطف ، لأن الملائكة جمع و (عَبْداً لِلَّهِ) مفرد ، وقيل : يجوز أن يكون المراد من (الْمَلائِكَةُ) كل واحد منهم ، فحينئذ يصح العطف (٨) ، قيل : في الكلام ارتقاء من الأدنى إلى الأعلى ، وهو يدل على أن الملائكة مفضلون على البشر ، وأجيب عنه بأن سوق الكلام رد على الذين يقولون الملائكة آلهة كما رد على النصارى أن عيسى إله أو ولد لله لا لتفضيل الملائكة على البشر (٩)(وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ) أي يأنف (عَنْ عِبادَتِهِ) أي عن العبودية لله (وَيَسْتَكْبِرْ) أي ويتعظم عن طاعته (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ) أي (١٠) إلى الله (جَمِيعاً) [١٧٢] فيأمر بهم إلى النار.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))
ثم قال في شأن الموحدين (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات التي بينهم وبين ربهم (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي يتم ثواب أعمالهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي من رزقه في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ثم قال تأكيدا في شأن المستنكفين عن عبادته (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا) أي
__________________
(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠٧.
(٢) قوله ، ب س : ـ م.
(٣) عن الكلبي ، انظر الواحدي ، ١٥٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٤٠٨.
(٤) عيسى ، ب م : ـ س.
(٥) الدمع ، ب س : الدموع ، م.
(٦) يكون ، ب م : أن يكون ، س.
(٧) هو المحذوف ، س : المحذوف ، ب م.
(٨) لعل المؤلف أخذه عن الكشاف باختصار ، ٢ / ١٠.
(٩) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ٢ / ١٩٤.
(١٠) أي ، س م : إلي ، ب.