لقضاء العمرة في أشهر الحج فكره أصحاب رسول الله القتال مع المشركين في الشهر الحرام لإمكان نقض العهد منهم (١) ، فأطلق عليهم القتال فيه بقوله تعالى (قاتِلُوا) ، أي جاهدوا لإعزاز الدين (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) في الشهر الحرام (وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تنقضوا العهد ببدء القتال في الشهر الحرام أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء والشيوخ والصبيان والمعاهدين (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [١٩٠] أي لا يرضي فعل المتجاوزين من الحلال إلى الحرام وهو الإبتداء بالظلم.
(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢))
(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي حيث وجدتموهم في الحل والحرم والشهر الحرام ان نقضوا عهدكم (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي من مكة ، لأنهم أخرجوا المسلمين أولا منها ، وأخرج النبي عليهالسلام ثانيا منها من لم يؤمن به منهم يوم الفتح ، وكان المشركون يستعظمون القتال في الحرم ويعيرون به المسلمين فنزل قوله (٢)(وَالْفِتْنَةُ) أي الشرك بالله (أَشَدُّ) أي أعظم عند الله (مِنَ الْقَتْلِ) الذي يحل بهم منكم في الحرم ، وقيل : الفتنة عذاب الآخرة (٣)(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي في الحرم (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي حتى يبدؤكم بالقتال (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) أي فان بدؤوكم بالقتال (فَاقْتُلُوهُمْ) أي فلا تبالوا بقتالهم ، قرئ في الثلاثة بألف وبغير ألف (٤)(كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء (جَزاءُ الْكافِرِينَ) [١٩١] أي قتلهم في الحرم وغيره (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي عن الشرك والقتال (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن تاب عن الذنوب (رَحِيمٌ) [١٩٢] لمن أطاعه من عباده.
(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣))
(وَقاتِلُوهُمْ) أي المشركين (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي شرك و «كان» تامة ، و «حتى» بمعنى إلى أن أو كي (وَيَكُونَ الدِّينُ) أي الإسلام والعبادة (لِلَّهِ) وحده ولا يعبد غيره فلا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو القتل (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك وقتالكم (فَلا عُدْوانَ) أي لا ظلم ، يعني لا تظلموا (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [١٩٣] أي إلا الذين لا ينتهون عن الظلم ، وسمي جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة.
(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤))
قوله (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي الشهر المحرم يقابل بالشهر المحرم في هتك الحرمة ، نزل حين ذهب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه عام الحديبية إلى مكة للعمرة فصدهم المشركون عن البيت في ذي القعدة سنة ست ، ثم رجع في العام الثاني مع أصحابه ، فدخلوا مكة ، فطافوا البيت ونحروا الهدى وأقاموا فيها ثلثة أيام في ذي القعدة أيضا سنة سبع (٥) ، فقال تعالى إذا قاتلوكم في الشهر الحرام بهتك حرمته فافعلوا بهم بهتك حرمة شهركم كما فعلوا بكم بهتك حرمته عليكم ، ولا تبالوا من كراهة القتال فيه ، لأن جزاء فعلهم فيكون هذا الشهر مقابلا بذلك الشهر (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) مصدر بمعنى المساواة ، أي كل حرمة يجري فيها
__________________
(١) نقله المفسر عن السمرقندي ، ١ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٤٥ ـ ٤٦.
(٢) أخذه عن البغوي ، ١ / ٢٣٥.
(٣) أخذ المفسر هذا القول عن الكشاف ، ١ / ١١٥.
(٤) «ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتي يقاتلوكم فيه فان قاتلوكم» : قرأ الأخوان وخلف بفتح تاء الأول وياء الثاني وإسكان القاف فيهما ، وضم التاء بعدها ، وحذف الألف من الكلمات الثلاث ، والباقون باثبات الألف فيها مع ضم تاء الأول وياء الثاني وفتح القاف فيهما مع كسر تاءيهما ولا خلاف في حذف الألف في «فاقتلوهم». البدور الزاهرة ، ٤٧.
(٥) نقله عن البغوي ، ١ / ٢٣٧ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٤٦ (عن قتادة).