و (مَنْ) قد تأتي بمعنى ما ، كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [النور : ٤٥] ، و «ما» قد تكون صلة في الكلام ، كقوله (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) [ص : ١١] ، ومعناه : بورك في النار وفيمن حولها ، وهم الملائكة وموسى عليهالسلام ، وسمى النار مباركة كما سمي البقعة مباركة فقال : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) [القصص : ٣٠] ، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله : (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) ، يعني قدس من في النار ، وهو الله عنى به نفسه ، على معنى أنه نادى موسى منها وأسمعه كلامه من جهتها.
كما روي : أنه مكتوب في التوراة جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران ، فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ، ومن ساعير (١) بعثة المسيح منها ، ومن جبال فاران بعثة المصطفى منها ، وفاران مكة. وقيل : كان ذلك نوره عزوجل. وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها ، والنار إحدى حجب الله تعالى.
[١٥٩٢] كما جاء في الحديث : «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ، ثم نزّه الله نفسه وهو المنزه من كل سوء وعيب ، فقال جلّ ذكره. (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، ثم تعرف إلى موسى بصفاته ، فقال :
(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩) ، والهاء في قوله (إِنَّهُ) عماد وليس بكناية ، وقيل : هي كناية عن الأمر والشأن ، أي الأمر والشأن أن المعبود أنا ، ثم أرى موسى آية على قدرته ، فقال :
(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) ، تتحرك ، (كَأَنَّها جَانٌ) ، وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها ، (وَلَّى مُدْبِراً) ، وهرب من الخوف ، (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ، ولم يرجع ، يقال : عقب فلان إذا رجع ، وكل راجع معقب. وقال قتادة : ولم يلتفت ، فقال الله عزوجل : (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) ، يريد إذا آمنهم لا يخافون أما الخوف الذي هو شرط [الإيمان](٢) فلا يفارقهم.
[١٥٩٣] قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنا أخشاكم لله».
(إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))
وقوله : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١) ، اختلف في هذا الاستثناء ، قيل : هذا إشارة إلى أن موسى حين قتل القبطي خاف من ذلك ، ثم تاب فقال : ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، فغفر له.
__________________
[١٥٩٢] ـ تقدم في تفسير سورة البقرة عند آية : ٢٥٥ ، خرجه مسلم وغيره.
[١٥٩٣] ـ صحيح. هو بعض حديث أنس.
أخرجه البخاري ٥٠٦٣ والبيهقي ٧ / ٧٧ والبغوي في «شرح السنة» ٩٥ وفيه : ... والله إنّي لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ...». وله شاهد في حديث عائشة أخرجه البخاري ٦١٠١ ومسلم ٢٣٥٦ وأحمد ٦ / ٤٥ و ٦١ و ١٨١ وأبو يعلى ٤٩١٠ وفي «شرح السنة» ٩٩ وفيه «... إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية».
(١) في المطبوع «ساعين».
(٢) زيد في المطبوع.