بمُرِّها لم يُصفها اللّه تعالى لأوليائه ، ولم يضنَّ بها على أعدائه ، خيرُها زهيد وشرُّها عتيد. وجمعها ينفدُ ، ومُلكها يُسلب ، وعامرُها يخربُ. فما خيرُ دار تنقضُ نقضَ البناء ، وعُمر يفنى فيها فناء الزَّاد ، ومُدَّةٍ تنقطعُ انقطاع السير .. » (١).
يقول الشيخ الديلمي : ما عبر أحد عن الدنيا كما عبر أمير المؤمنين عليهالسلام بقوله : « دارٌ بالبلاءِ محفوفة ، وبالغدر معروفة ، لا تدوم أحوالها ، ولا تسلم نزالها ، أحوالها مختلفة ، وتارات متصرفة ، والعيش فيها مذموم ، والأمان فيها معدوم ، وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها ... » (٢).
وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الادراك العميق للدنيا إلى حذر شديد منها ، ويكفينا الاستدلال على ذلك : سأل معاوية ضرار بن ضمرة الشيباني عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقال : أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وهو قائم في محرابه ، قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : « يا دنيا! يا دنيا!! إليك عني ، أبيَّ تعرّضتِ؟! أم إليَّ تشوّقتِ؟! لا حان حينك ، هيهات غرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثا ، لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آه من قلّة الزّاد ، وطول الطريق ، وبعد السفر ، وعظيم المورد » (٣).
__________________
(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ١٦٧ / خطبة ١١٣.
(٢) ارشاد القلوب ، للديلمي ١ : ٣٠ ـ منشورات الرضي ـ قم.
(٣) تنبيه الخواطر ، الأمير ورّام ١ : ٧٩ / باب العتاب.