للعلم منذ حداثته إلى أن توفّاه الله تعالى. فقد وهب نفسه للعلم ، وأعطى العلم أعظم نصيب من وقته ومن جهده. كانت عزيمته الماضية تتأبى على الفتور والكلال ، فتسلح بالصبر ، والنشاط. بهذه العزيمة طوّف في كثير من الأقطار ، فسمع من كبار العلماء بطبرستان ، والعراق ، والشام ، ومصر.
وبهذه العزيمة قرأ كثيرا ، وحفظ كثيرا ، وألف كثيرا ، وكان يستهين بالجهد المضني ، ويستسهل الصعب المجهد. وبهذه العزيمة كان يقرأ وهو شديد المرض ، فقد ذكر تلميذه « ابن كامل » أنه زاره قبل المغرب وهو شديد العلة ، فرأى تحت مصلاّه « فردوس الحكمة » لعلي بن زين الطبري (١).
وكانت عزيمته القويّة ، تنشّطه إلى القراءة وهو في الخامسة والثمانين من عمره ، ولم يكن يقنع بالقراءة في ذلك الوقت ، بل كان يتدبّر ما يقرأ ، ويتمعن فيه ، ويخطّ بقلمه في كثير من المواضع (٢).
وكانت ثمرات هذه العزيمة أنه خلّف ثروة عظيمة من المؤلفات في كثير من العلوم المختلفة ، وهذا ما سيتضح جليا بإذن الله تعالى أثناء الحديث عن مؤلفاته.
ومن صفات « أبي جعفر الطبري » ظرفه : كان « أبو جعفر الطبري » مع كثرة اشتغاله بالعلم إلا أنه لم يصرفه ذلك عن الدعابة ، ووجاهة السمت ، وأناقة المظهر ، والتنعم بما أحله الله تعالى ، فقد كان ظريفا في ظاهره ، نظيفا في باطنه ، حسن العشرة لمجالسيه ، مهذبا في جميع أحواله.
ومن صفات « الطبري » تعدد ثقافته : وحقا أن منهوم العلم لا يشبع ، كما أن منهوم المال لا يقنع ، وأنى لمنهوم العلم أن يشبع ، وهو يجد في كل لون من
__________________
(١) انظر معجم الأدباء ج ١٨ ص ٤٨.
(٢) انظر معجم الأدباء ج ١٨ ص ٨١.