وفيه : أن هذا القائل أراد الجمع بين عدة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكل احتمال ما يتوجه إلى الاحتمال الآخر من الإشكال فتورط بين المحاذير برمتها وأفسد لفظ الآية ومعناها جميعا.
فذهل عن أن المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الإسلام وقوته وهو ما كان بفتح مكة أو بنزول آيات البراءة لم يصح أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة : « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ » وقد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين ، وإنما اللفظ الوافي له أن يقال : قد يئسوا كما عبر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال : إنهم آيسون.
وذهل عن أن هذا التدرج الذي ذكره في محرمات الطعام ، وقاس تحريمها بتحريم الخمر إن أريد به التدرج من حيث تحريم بعض الأفراد بعد بعض فقد عرفت أن الآية لا تشتمل على أزيد مما تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولا على هذه الآية أعني آيات البقرة والأنعام والنحل ، وأن المنخنقة والموقوذة (إلخ) من أفراد ما ذكر فيها.
وإن أريد به التدرج من حيث البيان الإجمالي والتفصيلي خوفا من امتناع الناس من القبول ففي غير محله ، فإن ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعني الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به أغلب مصداقا ، وأكثر ابتلاء ، وأوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة والموقوذة وغيرها ، وهي أمور نادرة التحقق وشاذة الوجود ، فما بال تلك الأربعة وهي أهم وأوقع وأكثر يصرح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثم يتقي من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالإضافة إليها فيتدرج في بيان حرمتها ، ويخاف من التصريح بها.
على أن ذلك لو سلم لم يكن إكمالا للدين ، وهل يصح أن يسمى تشريع الأحكام دينا وإبلاغها وبيانها إكمالا للدين؟ ولو سلم فإنما ذلك إكمال لبعض الدين وإتمام لبعض النعمة لا للكل والجميع ، وقد قال تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » فأطلق القول من غير تقييد.
على أنه تعالى قد بين أحكاما كثيرة في أيام كثيرة ، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خص بالمزية فسماه الله أو سمى بيانه تفصيلا بإشمال الدين وإتمام النعمة.