إسرائيل ما ذكره الله سبحانه قبل هذه الآيات من الحسد والكبر واتباع الهوى وإدحاض الحق وقد قص قصصهم بين الله لهم حقيقة هذا الظلم الفجيع ومنزلته بحسب الدقة ، وأخبرهم بأن قتل الواحد عنده بمنزلة قتل الجميع ، وبالمقابلة إحياء نفس واحدة عنده بمنزلة إحياء الجميع.
وهذه الكتابة وإن لم تشتمل على حكم تكليفي لكنها مع ذلك لا تخلو عن تشديد بحسب المنزلة والاعتبار ، وله تأثير في إثارة الغضب والسخط الإلهي في دنيا أو آخرة.
وبعبارة مختصرة : معنى الجملة أنه لما كان من طباع الإنسان أن يندفع بأي سبب واه إلى ارتكاب هذا الظلم العظيم ، وكان من أمر بني إسرائيل ما كان ، بينا لهم منزلة قتل النفس لعلهم يكفون عن الإسراف ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إنهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون.
وأما قوله : « أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً » استثنى سبحانه قتل النفس بالنفس وهو القود والقصاص وهو قوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى » : ( البقرة : ١٧٨ ) وقتل النفس بالفساد في الأرض ، وذلك قوله في الآية التالية : « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً » (الآية).
وأما المنزلة التي يدل عليها قوله : « فَكَأَنَّما » (إلخ) فقد تقدم بيانه أن الفرد من الإنسان من حيث حقيقته المحمولة له التي تحيا وتموت إنما يحمل الإنسانية التي هي حقيقة واحدة في جميع الأفراد والبعض والكل ، والفرد الواحد والأفراد الكثيرون فيه واحد ، ولازم هذا المعنى أن يكون قتل النفس الواحدة بمنزلة قتل نوع الإنسان وبالعكس إحياء النفس الواحدة بمنزلة إحياء الناس جميعا ، وهو الذي تفيده الآية الشريفة.
وربما أشكل على الآية أولا : بأن هذا التنزيل يفضي إلى نقض الغرض فإن الغرض بيان أهمية قتل النفس وعظمته من حيث الإثم والأثر ، ولازمه أن تزيد الأهمية كلما زاد عدد القتل ، وتنزيل الواحد منزلة الجميع يوجب أن لا يقع بإزاء الزائد على الواحد شيء فإن من قتل عشرا كان الواحدة من هذه المقاتل تعد قتل الجميع ، وتبقى الباقي وليس بإزائه شيء.
ولا يندفع الإشكال بأن يقال : إن قتل العشرة يعدل عشرة أضعاف قتل الجميع وإن قتل الجميع يعدل قتل الجميع بعدد الجميع لأن مرجعه إلى المضاعفة في عدد العقاب ، واللفظ لا يفي ببيان ذلك.