عليهم وقيام البينة فإن الحد غير ساقط ، وأما قوله تعالى : « فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » فهو كناية عن رفع الحد عنهم ، والآية من موارد تعلق المغفرة بغير الأمر الأخروي.
قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ » (إلخ) قال الراغب في المفردات : الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة ، وهي أخص من الوصيلة لتضمنها لمعنى الرغبة ، قال تعالى : ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) ، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة ، وتحري مكارم الشريعة ، وهي كالقربة ، وإذ كانت نوعا من التوصل وليس إلا توصلا واتصالا معنويا بما يوصل بين العبد وربه ويربط هذا بذاك ، ولا رابط يربط العبد بربه إلا ذلة العبودية ، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر إلى جنابه تعالى ، فهذه هي الوسيلة الرابطة ، وأما العلم والعمل فإنما هما من لوازمها وأدواتها كما هو ظاهر إلا أن يطلق العلم والعمل على نفس هذه الحالة.
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله : « وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ » مطلق الجهاد الذي يعم جهاد النفس وجهاد الكفار جميعا إذ لا دليل على تخصيصه بجهاد الكفار مع اتصال الجملة بما تقدمها من حديث ابتغاء الوسيلة ، وقد عرفت ما معناه : على أن الآيتين التاليتين بما تشتملان عليه من التعليل إنما تناسبان إرادة مطلق الجهاد من قوله : « وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ».
ومع ذلك فمن الممكن أن يكون المراد بالجهاد هو القتال مع الكفار نظرا إلى أن تقييد الجهاد بكونه في سبيل الله إنما وقع في الآيات الآمرة بالجهاد بمعنى القتال ، وأما الأعم فخال عن التقييد كقوله تعالى : « وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ » ( العنكبوت : ٦٩ ) وعلى هذا فالأمر بالجهاد في سبيل الله بعد الأمر بابتغاء الوسيلة إليه من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بشأنه ، ولعل الأمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الأمر بالتقوى أيضا من هذا القبيل.
قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ » ( إلى آخر الآيتين ) ظاهره ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ أن يكون تعليلا لمضمون الآية السابقة ، والمحصل أنه يجب عليكم أن تتقوا الله وتبتغوا إليه الوسيلة وتجاهدوا في سبيله فإن ذلك أمر يهمكم في صرف عذاب أليم مقيم عن أنفسكم ، ولا بدل له يحل محله فإن الذين كفروا فلم يتقوا الله ولم يبتغوا إليه الوسيلة ولم يجاهدوا في سبيله لو أنهم ملكوا ما في الأرض جميعا ـ وهو أقصى ما يتمناه