ما لا يدب معه الحزن في قلبه ، وهكذا فعل الله سبحانه في جل الموارد التي نهى فيها النبي صلىاللهعليهوآله عن أن يحزن على توليهم عن الدعوة الحقة واستنكافهم عن قبول ما يرشدهم إلى سبيل الرشاد والفلاح فبين له صلىاللهعليهوآله أنهم ليسوا بمعجزين لله في ملكه ولا غالبين عليه بل الله غالب على أمره ، وهو الذي يضلهم بسبب فسقهم ، ويزيغ قلوبهم عن زيغ منهم ، ويجعل الرجس عليهم بسلب توفيقه عنهم واستدراجه إياهم ، قال تعالى : « وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ » : ( الأنفال : ٥٩ ) وإذا كان الأمر إلى الله سبحانه ، وهو الذي يذب عن ساحة دينه الطاهرة كل رجس نجس فلم يفته شيء مما أراده ولا وجه للحزن إذا لم يكن فائت.
ولعله إلى ذلك الإشارة بقوله : « فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ » (إلخ) دون أن يقال : فإن تولوا فإنما يريد الله (إلخ) أو ما يؤدي معناه فيئول المعنى إلى تعليم أن توليهم أنما هو بتسخير إلهي فلا ينبغي أن يحزن ذلك النبي صلىاللهعليهوآله فإنه رسول داع إلى سبيل ربه إن أحزنه شيء فإنما ينبغي أن يحزنه لغلبته إرادة الله في أمر الدعوة الدينية ، وإذا كان الله سبحانه لا يعجزه شيء بل هو الذي يسوقهم إلى هنا وهناك بتسخير إلهي وتوفيق ومكر فلا موجب للحزن.
وقد بين تعالى هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله : « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً » : ( الكهف : ٨ ) فبين أن الله تعالى لم يرد بإرسال الرسل والإنذار والتبشير الديني إيمان الناس جميعا على حد ما يريده الإنسان في حوائجه ومآربه ، وإنما ذلك كله امتحان وابتلاء يبتلى به الناس ليمتاز به من هو أحسن عملا ، وإلا فالدنيا وما فيها ستبطل وتفنى فلا يبقى إلا الصعيد العاري من هؤلاء الكفار المعرضين عن الحديث الحق ، ومن كل ما يتعلق به قلوبهم فلا موجب للأسف إذ لا يجر ذلك خيبة إلى سعينا ولا بطلانا لقدرتنا وكلالا لإرادتنا.
وقوله : « وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ » في محل التعليل لقوله : « أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ » (إلخ) على ما تقدم بيانه.
قوله تعالى : « أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ » تفريع بنحو الاستفهام على ما بين في الآية السابقة من توليهم مع كون ما يتولون عنه هو حكم