دون الحلف والنصرة وهو ظاهر ، ولو كان المراد بقوله : « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ » أن من حالفهم على النصرة بعد هذا النهي فإنه لمعصيته النهي ظالم ملحق بأولئك الظالمين في الظلم كان معنى ـ على ابتذاله ـ بعيدا من اللفظ يحتاج إلى قيود زائدة في الكلام.
ومن دأب القرآن في كل ما ينهى عن أمر كان جائزا سائغا قبل النهي أن يشير إليه رعاية لجانب الحكم المشروع سابقا ، واحتراما للسيرة النبوية الجارية قبله كقوله : « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا » : ( التوبة : ٢٨ ) وقوله : « فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا » الآية : ( البقرة : ١٨٧ ) وقوله : « لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ » : ( الأحزاب : ٥٢ ) إلى غير ذلك.
فقد تبين أن لغة الآية في مفرداتها وسياقها لا تتبرأ من كون المراد بالولاية ولاية المحبة والمودة ، بل إن تبرأت فإنما تتبرأ من غيرها.
وأما قولهم : إن المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون فسيجيء أن السياق لا يساعده فالمراد بقوله : « لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ » النهي عن موادتهم الموجب لتجاذب الأرواح والنفوس الذي يفضي إلى التأثير والتأثر الأخلاقيين فإن ذلك يقلب حال مجتمعهم من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية.
وإنما عبر عنهم باليهود والنصارى ، ولم يعبر بأهل الكتاب كما عبر بمثله في الآية الآتية لما في التعبير بأهل الكتاب من الإشعار بقربهم من المسلمين نوعا من القرب يوجب إثارة المحبة فلا يناسب النهي عن اتخاذهم أولياء ، وأما ما في الآية الآتية : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ » من وصفهم بإيتائهم الكتاب مع النهي عن اتخاذهم أولياء فتوصيفهم باتخاذ دين الله هزوا ولعبا يقلب حال ذلك الوصف ـ أعني كونهم ذوي كتاب ـ من المدح إلى الذم فإن من أوتي الكتاب الداعي إلى الحق والمبين له ثم جعل يستهزئ بدين الحق ويلعب به أحق وأحرى به أن لا يتخذ وليا ، وتجتنب معاشرته ومخالطته وموادته.
وأما قوله تعالى : « بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » فالمراد بالولاية ـ كما تقدم ـ ولاية المحبة المستلزمة لتقارب نفوسهم ، وتجاذب أرواحهم المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى ، والاستكبار عن الحق وقبوله ، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه ، وتناصرهم على النبي