وما ذكره من تبري الآية بمفرداتها وسياقها من ذلك من عجيب الكلام ، وليت شعري ما الذي قصده من هذا التبري الذي وصفه وحمله على مفردات الآية ولم يقنع بذلك دون أن عطف عليها سياقها.
وكيف تتبرأ من ذلك مفردات الآية أو سياقها وقد وقع فيها بعد قوله : « لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ » قوله تعالى : « بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » ولا ريب في أن المراد بهذه الولاية ولاية المحبة والاتحاد والمودة ، دون ولاية الحلف إذ لا معنى لأن يقال : لا تحالفوا اليهود والنصارى بعضهم حلفاء بعض ، وإنما كان ما يكون الوحدة بين اليهود ويرد بعضهم إلى بعض هو ولاية المحبة القومية ، وكذا بين النصارى من دون تحالف بينهم أو عهد إلا مجرد المحبة والمودة من جهة الدين؟
وكذا قوله تعالى بعد ذلك : « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ » فإن الاعتبار الذي يوجب كون موالي جماعة من تلك الجماعة هو أن المحبة والمودة تجمع المتفرقات وتوحد الأرواح المختلفة وتتوحد بذلك الإدراكات ، وترتبط به الأخلاق ، وتتشابه الأفعال ، وترى المتحابين بعد استقرار ولاية المحبة كأنهما شخص واحد ذو نفسية واحدة ، وإرادة واحدة ، وفعل واحد لا يخطئ أحدهما الآخر في مسير الحياة ، ومستوى العشرة.
فهذا هو الذي يوجب كون من تولى قوما منهم ولحوقه بهم ، وقد قيل : من أحب قوما فهو منهم ، والمرء مع من أحب ، وقد قال تعالى في نظيره نهيا عن موالاة المشركين : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ ـ إلى أن قال بعد عدة آيات ـ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » : ( الممتحنة : ٩ ) وقال تعالى : « لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ » : ( المجادلة : ٢٢ ) وقال تعالى في تولي الكافرين ـ واللفظ عام يشمل اليهود والنصارى والمشركين جميعا ـ : « لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ » : ( آل عمران : ٢٨ ) والآية صريحة في ولاية المودة والمحبة دون الحلف والعهد ، وقد كان بين النبي صلىاللهعليهوآله وبين اليهود ، وكذا بينه وبين المشركين يومئذ أعني زمان نزول سورة آل عمران معاهدات وموادعات.
وبالجملة الولاية التي تقتضي بحسب الاعتبار لحوق قوم بقوم هي ولاية المحبة والمودة