هو ، وأما أنه أعلم بالظالمين ولا يخطئهم إلى غيرهم فلأنه يعلم ما في البر والبحر ويعلم كل دقيق وجليل ، والكل في كتاب مبين.
فقوله تعالى : « وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ » راجع إلى الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه ، وقوله : « لا يَعْلَمُها » « إلخ » حال وهو يدل على أن مفاتح الغيب من قبيل العلم غير أن هذا العلم من غير سنخ العلم الذي نتعارفه فإن الذي يتبادر إلى أذهاننا من معنى العلم هو الصورة المأخوذة من الأشياء بعد وجودها وتقدرها بأقدارها ومفاتح الغيب ـ كما تبين ـ علم بالأشياء وهي غير موجودة ولا مقدرة بأقدارها الكونية أي علم غير متناه من غير انفعال من معلوم.
وقوله : « وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ » تعميم لعلمه بما يمكن أن يتعلق به علم غيره مما ربما يحضر بعضه عند بعض وربما يغيب بعضه عن بعض ، وإنما قدم ما في البر لأنه أعرف عند المخاطبين من الناس.
وقوله : « وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها » اختص بالذكر لأنه مما يستصعب الإنسان حصول العلم به لأن الكثرة البالغة التي في أوراق الأشجار تعجز الإنسان أن يميز معها بعضها من بعض فيراقب كلا منها فيما يطرأ عليه من الأحوال ، ويتنبه على انتقاصها بالساقط منها إذا سقط.
وقوله : « وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ » إلخ ، معطوفات على قوله :
« مِنْ وَرَقَةٍ » على ظاهر السياق ، والمراد بظلمات الأرض بطونها المظلمة التي تستقر فيها الحبات فينمو منها ما ينمو ويفسد ما يفسد فالمعنى : ولا تسقط من حبة في بطون الأرض المظلمة ولا يسقط من رطب ولا من يابس أيا ما كانا إلا يعلمها ، وعلى هذا فقوله : « إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ » بدل من قوله : « إِلَّا يَعْلَمُها » سد مسده ، وتقديره إلا هو واقع مكتوب في كتاب مبين.
وتوصيف الكتاب بالمبين إن كان بمعنى المظهر إنما هو لكونه يظهر لقارئه كل شيء على حقيقة ما هو عليه من غير أن يطرأ عليه إبهام التغير والتبدل وسترة الخفاء في شيء من نعوته ، وإن كان المبين بمعنى الظاهر فهو ذلك أيضا لأن الكتاب في الحقيقة هو المكتوب ، والمكتوب هو المحكي عنه ، وإذا كان ظاهرا لا سترة عليه ولا خفاء فيه فالكتاب كذلك.